كالعادة بدأت الاحتفالات السنوية بثورة 23 يوليو أو انقلاب يوليو أكثر صخباً وجدلاً، النظام الحاكم ويقف معه العروبيون يمجدون الثورة ويرفعون قادتها إلى مراتب الآلهة، النظام يعلن ويؤكد أنه يستمد مشروعيته فى الحكم من شرعية يوليو، وفى نفس الوقت تخطب حناجر مداحين العروبة مطالبة بالرجوع الى أفكار عبدالناصر لأن فيها علاج لمشكلات مصر وينتقدون الحكم لأنه تخلى عن بعض أفكار الثورة.
الغريب أنهم لا يجيبون عن السؤال الأساسى: عن أى شرعية يتحدثون؟! هل شرعية الحروب والدمار الذى حلت بمصر وأدت إلى هزيمة تلو الأخرى، قبل أن نسترد حقوقنا بانتصار يصعب تحقيقه حاليا وبعد أن قدمت معظم الأسر المصرية فرداً من أبنائها من أجل تراب هذا البلد؟ أم شرعية الفقر والجوع ونهب البلد!! أم هى شرعية عشرات الآلاف الذين بقوا بين جدران السجون منتظرين أن يأتى اليوم الذى يرون فيه النور.
أعلن قادة نظام يوليو أنهم قادوا الثورة للاحتجاج على أوضاع متردية، وسيئة، ومن أجل الاصلاح، إصلاح الفجوة الاجتماعية بين المصريين ، والإصلاح السياسى للأحزاب الموجودة المتناحرة على السلطة، وتغيير مناخ الفساد الذى تفشى فى كافة الأوساط ومن بينها الجيش. وحكم نظام يوليو بالحديد والنار حيث أقنع الشعب المتعطش إلى النهضة والنمو بأن العدالة الاجتماعية وبناء الدولة الحديثة يتطلب تنازلات عديدة كان أبرزها يتعلق بالحقوق السياسية والثقافية فلا حريات ولا تعبير عن رأى ولا اختلاف. لم تكتف الثورة بهذا الحد بل قامت فى سلوك لم يشهده العالم بمسح تاريخ هذا البلد العريق من الكتب والإعلام والثقافة واختراع ما يعرف بالقومية العربية.
قام قادة الثورة من أجل أطماع التوسع بتزييف الحقائق وتضليل المصريين والهجوم على القومية والهوية المصرية واستبدالها بهوية بدوية قادمة من الصحراء تحت وهم اسمه العروبة. لقد مسحت ثورة يوليو تاريخ راسخ وخبرات متراكمة كانت اكتسبتها مصر خلال الفترة من حكم محمد على بناء مصر الحديثة إلى 1952 وأهملت دروس التاريخ وراحت تروج لفكر شمولى ديكاتورى قائم على حكم الزعيم ظل الله فى الأرض، يحكم ولا يسأل، يأمر ولا يرفض له طلب.
إن تقييم أحوال مصر بعد 56 عاما من ثورة يوليو غير المجيدة يكشف إلى أى مدى حجم التدهور والتراجع، زيادة متواصلة فى أعداد الفقراء، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء ووهن اقتصادى شديد، وغياب برامج التنمية لدرجة أن مصر بدأت برامج التنمية والنهضة الاقتصادية قبل كوريا الجنوبية، لكن الأخيرة أصبحت نمراً اقتصادياً لها صوت مسموع على الصعيد العالمى بينما صارت مصر تتسول المعونات. أما على صعيد المجال السياسى فقد صنعت ثورة يوليو جيلا من القادة لا يؤمن بالديمقراطية ولا بتبادل السلطة أو حق الشعب فى اختيار حكامه وصنع قراراته، قادة يعشقون التزوير ، ولا يستطيعون العيش دون فساد، ولا يحتملون وجود غيرهم فى دائرة .
عمل أصحاب شرعية يوليو إلى إنشاء أحزاب لا قيمة لها، لا تسعى إلى الحكم، ولا تملك مقومات المنافسة للوصول إلى السلطة، أحزاب عبارة عن مقار وصحف لا يقربها إلا أعضاء الحزب فقط ، الذين لا يزيدون عن العشرات ناهيك عن تحول مصر إلى دولة بوليسية تدار من قبل الجيش والشرطة يسيطرون على المواقع الحساسة، رؤساء الأحياء والمدن والمحافظين والوزراء وشركات القطاع العام والهئيات الاقتصادية والأندية الرياضية وغيرها الكثير والكثير . أما عن القوانين المقيدة للحريات برغم بروباجندا الإعلام الحكومى والادعاء بأننا بلد الحريات إلا أن الواقع مختلف، فالتضييق على الأحزاب والجمعيات الأهلية والنقابات ووسائل الإعلام وغياب الشفافية أبرز سمات هذا النظام.
شرعية يوليو تسمح للمعارضين بالتعبير عن بعض الآراء، لكن لا تسمح لأى منهم أن يشارك فى صناعة القرار أو أن يكون له القدرة على لعب دور فعال فى إدارة شئون البلد، وهى الشرعية التى ولدت نخب الفساد الذى وصل إلى كافة المؤسسات الرسمية. وحولت الفساد من سلوك فردى يعاقب عليه القانون إلى ظاهرة وثقافة لها نخب تدافع عنها وتحميها، وبنظرة عميقة إلى معظم قضايا الفساد التى تم تفجيرها خلال السنوات الأخيرة لم تصدر أحكام بحق المقبوض عليهم وتمت تبرئتهم.
شرعية يوليو خلفت وراءها التهميش السياسى والفقر والانحدار الثقافى والتعصب الدينى وقائمة طويلة ومريرة من الاخفاقات. الشباب المصرى لم يعش قيام الثورة والشرعية التى استندت إليها، ولا يريدها، نحن فى حاجة إلى شرعية الوطن والمواطن فقط، نحن فى حاجة إلى شرعية قائمة على العلاقة المتساوية بين النظام والمواطن التى تسمح بمساءلة الحكومة ومعاقبتها عند وقوع الأخطاء وتغييرها عندما لا تسعى إلى مصلحة المواطن.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة