فى ذكرى رحيل الشاعر الفلسطينى

سعيد الشحات ينقل جلسة نادرة بين محمود درويش وسميح القاسم ويوسف القعيد وكرم مطاوع

الخميس، 13 أغسطس 2009 04:19 م
سعيد الشحات ينقل جلسة نادرة بين محمود درويش وسميح القاسم ويوسف القعيد وكرم مطاوع محمود درويش

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄درويش يكشف سر تأليفه قصيدة «أحن إلى خبز أمى».. ويرشح «مديح الظل العالى» لكرم مطاوع لتحويلها إلى مسرح
◄خلاف ساخن مع سميح حول طريقة إلقاء الشعر.. ودرويش يعترف: أكره «سجل أنا عربى»

أطل الشاعر محمود درويش بهيبة، فرفع الشاعر سميح القاسم يده اليمنى مناديا: «تعالى يا محمود»، وجاء محمود.

كانت مفاجأة لى وصديقى الصحفى مجدى حسنين الذى رحل وترك فى قلوب محبيه حزنا معتما، واعتبرناها أشبه بكنز يأتينا من السماء، والكنز ليس فقط بلقاء محمود درويش، وإنما فى جلسة تضمه مع سميح القاسم شطره الثانى فى برتقالة الشعر والحياة التى تقاسمها الاثنان سويا، الحياة التى لخصها سميح فى كلمة بليغة قالها بعد وفاة محمود: نفرح ونحزن، نهدأ ونغضب، وصديقان منذ الصبا، تقاسمنا رغيف الخبز معا، لعبنا معا، كتبنا الشعر فى السر والعلن معا، خفت عليه وخاف علىّ.

كنا فى الثامنة من مساء الرابع من نوفمبر عام 1988، وكان فندق شبرد المطل على النيل هو مسرح اللقاء، والمناسبة استضافة مصر مؤتمر «الحفاظ على المقدسات الفلسطينية» وكان ينظمه اتحاد الفنانين العرب برئاسة الراحل الكبير سعد الدين وهبة، أيام كان لهذا الاتحاد حياة، كان المؤتمر تضامنًا مع انتفاضة الحجارة الفلسطينية، وكان الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات على قمة المشاركين، لم يكن وقتها رئيس سلطة فلسطينية بعد، كان رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

كانت مشاركة سميح القاسم فى المؤتمر، هى المرة الأولى التى يأتى فيها إلى القاهرة، ولم يصدق أنه يرى عاصمة عربية خالصة لأول مرة فى حياته، وجاء درويش للمشاركة فى المؤتمر، بعد نحو 13 عاما من قدومه لأول مرة إلى مصر (فبراير1971) للإقامة فيها، ثم مغادرته لها بعد سنوات قليلة.

جاء الشاعران الكبيران إلى القاهرة وفى الخلفية كل ما سبق، وما عرفناه عن خصوصية العلاقة الشخصية والشعرية بينهما، واشترك الاثنان أثناء فعاليات المؤتمر فى أمسية على مسرح البالون ومعهما الشاعران مريد البرغوثى وأحمد دحبور، وألقى درويش ثلاث قصائد، هى «هى أغنية، وعابرون فى كلام عابر، وأسميك نرجسة حول قلبى» وهى مهداة إلى سميح القاسم، وكان أداء درويش فيها مؤثرا وشجيا، استمع إليها سميح الجالس بجواره على المسرح، وعيناه صوب الأرض لا تبرحها، ولا يمر مقطع دون أن يهز رأسه وأحيانا جسده، ولاحظ الجمهور تأثره حين قال درويش:
«أسميك نرجسة حول قلبى
لوكان قلبى معك
وأودعته خشب السنديان
لكنت قطعت الطريق بموت أقل»
قال مجدى لسميح: التأثر كان واضحا جدا عليك «امبارح أثناء إلقاء درويش».. رد سميح: «آه ابن..... بكانى»، محمود يكتب شعرا يبكيك من شدة شفافيته.
بينما نحن على هذا الحال، أطل محمود درويش، فناداه سميح، ليدق قلبى وقلب مجدى ترقبا، وفى خيال كل منا تحدى الرغبة فى إنجاز هذا الحوار الثنائى، فكيف سنحققه؟
«أهلا يا سميح، كيف الحال»، هكذا قال درويش وهو يستعد للجلوس، وقبل أن يبادله سميح التحية، ويستقر فى مكانه واصل: «أنا يائس»، فرد سميح مبتسما: «يأس!.. فيه سبب؟»، أجاب محمود: «لا أعرف»، رد سميح: «إذًا فلنتحدث عن الأمل، وأقدم إليك يا محمود الصحفيين، سعيد الشحات ومجدى حسنين»، أسرع محمود بالرد: طبعا الجلسة غير صحفية، ضحك سميح: «لا، لا يا محمود، همّه أصدقاء محترمين ويعجبوك، أنا عرفتهم من يومين فى حوار صحفى».. كانت طمأنة سميح، وطبيعة الجلسة الودية التى وجدنا عليها محمود حافزا لفتح شهيته للكلام، فتكلم شاكيا فى البداية من مطاردة الصحفيين، وتقليدية أسئلتهم، كنت أتأمله، وذهنى مشغولا بكيفية تغيير هذا المزاج، والحصول على موافقته لأن تكون جلستنا صحفية، فسألته: انت والأستاذ سميح لكما طريقة مختلفة فى إلقاء الشعر فأنت يا أستاذ محمود تضفى شجنا عميقا على المستمع، بينما تميل طريقة إلقاء الأستاذ سميح إلى الأداء «المسرحى»، كما كان واضحا فى إلقائه قصيدته «شخص غير مرغوب فيه»، فهل يعود ذلك إلى بنية القصيدة نفسها، أم طريقة معينة يفضلها الشاعر فى إلقائه؟

كان سؤالى مفتتحا لكلام كثير ومتشعب فى الجلسة التى زادت على الساعتين، وانضم لبعض الوقت إليها الكاتب والروائى يوسف القعيد، والفنان الراحل كرم مطاوع، والشاعر الفلسطينى أحمد دحبور، والشاعر هارون هاشم الرشيد، وكنت أضع جهاز الكاسيت فى الجيب الداخلى للجاكيت، ودون أن يشعر أحد -هكذا تصورت- مددت يدى إلى الجيب حتى أضغط على زر التشغيل، كنوع من المحايلة، لكن درويش وبسرعة بديهية فائقة، فوجئت به قائلا: «طلع الكاسيت»، ضحكنا، وضحك هو من قلبه كالطفل، أخرجت الكاسيت فرحا، وقال سميح: «مسموح بالتسجيل؟».
رد درويش: «مسموح، هى جلسة حميمية، وأتمنى فقط أن ننسى إن فيها كاسيت حتى لا نتقيد بشىء».. وبدأنا.. وانتهينا وكل شىء على الكاسيت وهذا جانب منه.
أجاب درويش: «رد فعل الناس أو انفعالهم سواء كان بكاء أو حماسة لا تقرره القراءة، وإنما رسالة القصيدة، وحالتها النفسية التى تحدد رد الفعل وليس الإلقاء، سميح مثلا لو قرأ قصائد من ديوانه الأخير، يعلق سميح: لو قرأت مثلا قصيدة «تغريبة»، يقول محمود: نعم.. نعم.. الناس لن يتحمسوا، يرد سميح: القصيدة بتفرض الجو، وتفرض الإلقاء أيضا، يوافقه محمود: أكيد، أكيد، لكن فيه شعراء لا يفهمون قصيدتهم «كويس» ، يعنى الشاعر لا يستوعب نفسه، يعلق سميح: ممكن يتصور أنه بالصراخ يستطيع السيطرة على الجمهور، يرد محمود: الحزن له وتيرة صوتية تعطى مهابة، فيعلق سميح: لما تنظر فيما بعد ربما تجد تناقضا بين نص القصيدة من حيث مضمونها وبين نبرة الإلقاء، تخيل مثلا شعرا مثل: «من أى عهد فى القرى تتدفق.. وبأى كف فى المدائن تغدق»، هذا شعر لا يمكن قراءته كقراءة: «حننت إلى ليلى..» فمضمون القصيدة يفرض القراءة، يتدخل محمود: من الضرورى أن نلاحظ أن كتابة الشعر فن، وقراءته فن آخر، ولا توجد علاقه بين الاثنين، القراءة شىء له علاقة بالمسرح.. مثلا شاعر عظيم مثل شوقى لم يكن يجيد أو يستطيع قراءة شعره، وعبدالوهاب البياتى أيضا لا يقرأ شعره، على الجارم كان يقرأ لشوقى.
مجدى: قيل إن كامل الشناوى كان يقرأ لشوقى، يرد محمود: لا.. لا.. على الجارم هو الذى كان يقرأ شعر شوقى، يعلق سميح: أشك فى رواية أن كامل الشناوى كان يقرأ لشوقى، واعتقادى أن من يقرأ لشاعر إلى حد ما يجب أن يكون فى مثل حجمه، وأقول إلى حد ما، لأنه حين يكون فى حجمه يستوعب ما يقال، ويعرف صنعة القصيدة، وطبيعة أجوائها، وكامل الشناوى بالنسبة لشوقى شعريا لا شىء، ومن هنا أشك فى تلك الرواية، يرد محمود: هناك مذيعو وممثلو مسرح ممتازون يقرؤون الشعر، لا يوافقه سميح: مهما يقرؤون، مهما يقرؤون، يعترض محمود: لا يا سميح، كرم مطاوع له قراءة لقصائد لى، تحب أن تسمعها منه، وأنا أيضا، لأنه يحولها إلى مسرح، أى يحولها من فن إلى فن آخر، وكرم ليس شاعرا، لكنه قادر على تمثيل الشعر وتقديمه بشكل غير معقول، وسهير المرشدى أيضا، وسميحة أيوب سمعت لها من حوالى 20 سنة تقريبا قصيدة لى لا أحبها إطلاقا، لا أطيقها وهى «سجل أنا عربى»، سمعت منها القصيدة فى الإذاعة، شىء غير معقول وأنا أسمعها منها، حين سمعتها صدقونى أنا قلت.. معقول أنها قصيدتى، والحقيقة أنا كنت أسمع منها وأشاهد مسرحا، أسمع منها حاجة غير قصيدتى التى لا أحبها.

سميح: يا محمود، هى لم تأت بشىء من بيتها، هى قرأت القصيدة اللى انت كتبتها، يعترض محمود: لا.. لا يا سميح.. فنان المسرح يضفى جديدا لا يكون فى الحسبان، يعترض سميح: مهما يضفى، الممثل بحجم ما هو قدير، هو يكتشف ما فى القصيدة، يقول محمود: هو يقدم خدمات مسرحية تكبر الصورة أو الحركة، هو يأتى بخدمات من خارجها، أى يستعير من فن المسرح عناصر تسهم أكثر فى إنارة النص الشعرى، وإيصال القصيدة، يرد سميح: هات أعظم ممثل فى العالم ليقرأ قصيدة رديئة، لن يستطيع أن يقنع أحدا بها، يعلق محمود: فى تلك اللحظة، لحظة قراءتها، قد يخدع المستمع بأنه يقرأ قصيدة جيدة بينما هى رديئة، يقول سميح: قد يخدع المستمع العادى أو دون العادى.

سعيد: هذا الجدل المثير وما ذكرته يا أستاذ محمود حول قصيدة «سجل أنا عربى» يدفعنى إلى السؤال: ما القصيدة التى لدى سميح القاسم ومحمود درويش يتجنبان قراءتها؟، يجيب سميح: قصيدة «تغريبة» القصيدة اللى كتبتها لك يا محمود.. أختنق.. أحب قراءتها، وأخشى قراءتها.. هى قصيدة فاضحة، مرهقة أتجنب قراءتها، هناك قصائد وجدانيا مرهقة، ويقول محمود: «هى أغنية» أتحاشى قراءتها، ونادرا ما أقرأها.. قرأتها فقط ثلاث مرات، مرة نجحت، يعنى استطعت مواصلة قراءتها، وآخر مرة، أنا تعبت، لم أكن مستريحا، يتدخل أحمد دحبور، مذكرا درويش بأمسية سابقة لهما، ويذكره بأنه ألقى فيها «هى أغنية» وأن أحدا حكى له أنه بكى، بعد هذا التدخل من دحبور فاجأه درويش بتعليقه على قصيدته «العودة إلى شاى الصباح»، والتى ألقاها فى أمسية البالون: قصيدتك يا أحمد فيها مشكلة بنائية، وأنا لاحظت أن فيها مقاطع كلاسيكية سلفية، لا أعرف تزعل منى ولا لأ.. لكن أنا امبارح ما حبيتك، يتدخل سميح: انت قرأت يا أحمد أكثر من قصيدة امبارح، يعلق محمود: شوفت الانطباع، بأن فيه أكثر من قصيدة فى القصيدة، لازم تقرأها يا أحمد من جديد، وتضع إيدك على أنها هندسيا فيها مشكلة.

سعيد: أستاذ محمود، لماذا وكما قلت لا تحب قصيدة «سجل أنا عربى»، وهى القصيدة التى تحولت إلى نشيد فلسطينى ضد المحتل، يجيب محمود: هذه مسألة تتعلق بأنى أريد ألا يقف بى الجمهور عند هذه المرحلة، فأنا لست شاعر القصيدة الواحدة، أحب أن يعرفنى الجمهور فى كل مراحل تطورى، يتدخل سميح: هناك قصائد، للصدفة التاريخية، ولسبب من الأسباب أصبحت علامات ليست فى حياتنا، وإنما فى حياة قضيتنا كلها، قصيدة «سجل أنا عربى» ليست قصيدة فى حياة محمود درويش، بغض النظر عن تقييمه أو تقييمنا الفنى لها، هى فى دورها ومرحلتها كانت فاصلة ونقطة انتقال ليس فى شعرك يا محمود، وإنما فى القضية ووعى الجماهير.

مجدى: معنى ذلك أن الجمهور لا يتطور ذوقه الشعرى؟، يرد سميح: الجمهور لا يتطور ذوقه الشعرى، مثلما يتطور الشاعر نفسه، هى صنعتنا، شغلنا ليل نهار، نلهث، نجرى وراء نفسنا، لأن قضية التطور تهمنا جدا، أما الجمهور فلو سمع قصيدة وأحبها وارتبطت بوجدانه، يظل يسمعها حتى لو 500 سنة، وأمام ذلك أتصور أننا حين نقرأ هذه القصائد، نقرأها مجاملة للوجدان الشعبى، يعنى هى تنتقل من ملكية خاصة إلى ملكية عامة، وهذا خلق لى ولمحمود إشكالية، ففى فترة معينة كان هناك هجوم علينا، وشاركت صحافتنا فيه، بل وقادت هذا الهجوم، يتدخل محمود: اتهمونا فيها بأننا شعراء رمزيون، يتدخل سميح: التشكيك وصل إلى القول بأننا شعراء برجوازيون وشعراء الفن للفن، وكل هذا على قصائد تجاوزناها اليوم بمليون سنة ضوئية.

مجدى: أستاذ محمود، الأستاذ سميح له إنتاج غير الشعر، له رواية، مسرح، ألم تفكر فى اقتحام هذه الألوان الإبداعية؟، يضحك سميح: بلا فضائح، محمود لم يقرأ.. «ضحك»، يعلق محمود: أخاف ألا أحبك «ضحك»، وعموما كل واحد يحلم أنه يجرى ويدخل حلبة التحدى للفن الثقافى السائد، والرواية هى الشكل الثقافى الأول الآن فى العالم، وأنا أرغب فى كتابة الرواية، وأغبط الروائيين، هى غبطة أكثر منها مزاولة، أتمنى أن أكون قادرا على كتابة الرواية، لكن بين التمنى والصبر والجلد والمجازفة التى يحتاجها كاتب الرواية، مازلت أقف على باب التمنيات، والحلم بأن أصحو فأجد الرواية بجانبى، أتمنى أن أكون من أصحاب الروايات الجميلة، أن أكون روائيا، يتدخل سميح: محمود يحب الرواية، وممكن يكون روائيا، لكن فيه شرط لكتابة الرواية، غير متوفر عنده وهو الاستقرار، يعلق محمود: استقرار مجتمعى، الرواية تحتاج إلى ذلك، والمسرح أيضا، يرد سميح: لا، لا، أنت بحاجة لشىء ثان على الأقل وهو ألا تغير أمكنة إلى أخرى، أنا عندى محاولتان أسميتهما حكاية بدلا من رواية.. هربت يا محمود من مدينة إلى أخرى، وسكنت فى بيت وحدى، وظللت شهرين على هذا الحال، أنا عندى مزايا أكتر، شعرى أقل، عندى استقرار نسبى، عكس محمود الذى لا يستطيع تحقيق ذلك الآن نتيجة ظروف عمله، وأنا متأكد أنه لو توافرت له الظروف فى أقرب مناسبة، سيجد نفسه متورطا فى كتابة رواية، صح يا محمود، يرد محمود: آه، آه، آه، أما الكتابة التى أحبها وأمارسها مع الشعر، فهى كتابة المقال، أحب كتابة المقال، أجد متعة فى كتابة النثر المتميز بأى صيغ، وعندى حلم يراودنى دائما بأن أكتب عن البيوت التى سكنتها فى كل البلاد التى أقمت فيها، فى فلسطين، فى مصر، فى بيروت، فى تونس، فى فرنسا، فى عمان، هذا حلمى أتمنى أن أصحو فأجده حقيقة.

سعيد: أستاذ محمود ماذا عن طقوسك أثناء الكتابة؟، يجيب محمود: هى واحدة لا تتغير أستيقظ مبكرا، وأرتدى ملابسى الكاملة بالضبط وكأنى أتوجه إلى عمل خارجى، وأدخل مكتبى، وأنا فى كامل هيئتى، أقرأ أو أكتب، وحين أكتب أنصرف عن كل شىء حولى، لا أنتبه إلى أى شىء آخر، وأفضل الكتابة بقلم حبر على ورق دشت، أسمع صوت سنه وهو يخط الكلمات، لا أعرف سر ذلك، ولكن أظن يا سميح أنها من أيام جريدة الاتحاد، يرد سميح: أكيد يا محمود.
سعيد: أستاذ محمود حدثنا عن خصوصية قصيدتك الرائعة، «أحن إلى خبز أمى.. وقهوة أمى.. ولمسة أمى.. وتكبر فى الطفولة.. يوما على صدر يوم.. وأعشق عمرى.. لأنى إذا مت.. أخجل من دمع أمى»، يسود الصمت للحظات، ليقول درويش: أمى، أمى، أمى، أنا كتبت هذه القصيدة فى سجن معصيان بجوار الرملة، كتبت مجموعة قصائد كثيرة من ديوان «عاشق فلسطين» عام 1964.. لا أعرف.. لا أعرف، كفى، كفى، يا أخى لماذا هذه القصيدة بالذات؟، يلتقط سميح القاسم تأثر محمود فيتدخل قائلا: هناك لحظات تصبح فيها الشفافية الإنسانية فى أقصى درجاتها، محمود يحب أمه ويخاف على حزنها، الخوف من الموت ليس حبا منه فى الحياة ولا خوفا على نفسه، وإنما كى لا تحزن أمه، يعنى بكلمة أخرى، أم محمود عنده أغلى من الحياة، يعود محمود إلى الكلام متأثرا: هذه جلسة إنسانية حميمية، ممكن أقول فيها شيئا قاسيا أظنه أول مرة، أنا كان عندى مشكلة وأنا صغير، كنت أعتقد أن أمى لا تحبنى، لأسباب معروفة وشائعة فى البيوت العربية، فأنا الثانى فى ترتيب أشقائى، أخى الكبير تحميه أمى، والأب يحمى الأصغر منى، وأنا ضائع، وعند حدوث أى مشكلة كبيرة، أنا «آكل علقة»، كنت من ينزل عليه العقاب، أبى كان رجلا خجولا جدا، يخدم أولاده بصدق وممن يعتقدون أن التعبير عن الحنان هو حالة ضغف، وبالتالى كنت ألجأ إلى جدى لأبى، هو كان أبى الحقيقى، كبرت ولا أعرف ما إذا كانت عقدتى نحو أمى لها علاقة بالإحساس أم لا، المهم استمر الحال هكذا، حتى اعتقلتنى قوات الاحتلال أول مرة، يلتفت محمود درويش إلى سميح القاسم: تتذكر يا سميح هذه الفترة، يهز سميح رأسه مسلما ويضيف محمود: فى يوم مازلت أذكره أبلغنى سجانى بأن هناك زيارة لى، خرجت لأجدها هى أمى كانت مفاجأة، دخلت فى حضنها، قبلت يدها ورأسها ووجهها، أمى التى كنت واهما أنها لا تحبنى هى الآن أمامى، كان إحساسا مفاجئا أشعر به الآن وأنا أحدثكم، انفجر حبى لها، ولما انصرفت تأملت القصة كلها بعد الزيارة ولم أجد أجمل من الاعتذار لها إلا بكتابة القصيدة، اعتذار عن ظلمى لها سنوات لم أكن أفهمها كما ينبغى أن يفهم الأبناء أمهاتهم.

سعيد: هل تذكر ما قالته لك؟
محمود: قالت كل ما يشد العزم، وما يعين فى مثل هذه المحن، أوصتنى بأن أبقى كما أنا، قالت لى كن أقوى من سجانك، أحببتها وتمنيت أن يعود الزمن لأضع كل تصرف منها فى موضعه الصحيح، أحببتها.. أحببتها.

سميح: لما الإنسان يكبر، هو يصحح مشاعره ومع الكبر نكتشف أننا ظلمنا أهلنا، ونعيد تفسير الأشياء تفسيرا صحيحا، والدى مثلا كانت هوايته الصيد، وكلما كنت أسافر إلى الخارج، أشترى أى شىء له علاقه بأدوات الصيد، كان تصرفى هذا هو فى حقيقته تعويضا واعتذارا منى له عن أى سوء فهم سابق منى نحوه.

فرض كلام محمود عن أمه حورية حالة من الشجن، قطعها دخول الفنان كرم مطاوع يرتدى كوفية مزركشة على بدلته البنى، وفى لمح البصر دخل الاثنان فى أحضان دافئة وعناق حار: قال له محمود: بالمناسبة كنا نتحدث قبل مجيئك عن إلقاء الشعر وظروفه ونجومه، وقلت إن كرم مطاوع حين يقرأ الشعر يعطيه لونا آخر، يرد كرم ضاحكا: هذا كلام كبير أحتمله شخصيا صيفا لكن شتاء.. لا، زاد دفء الجلسة مع مجىء كرم وبعد استقرار الكاتب والروائى الكبير يوسف القعيد فى الجلسة التى انضم إليها مبكرا، ولعب مطاوع والقعيد دور الصحفيين، وبدأ القعيد المهمة بتحفيز مطاوع بقوله: أقترح على كرم أن يسأل محمود: لماذا يكتب نصا روائيا اسمه «البيوت»، يرد محمود: مين قال روائى، هو شعرى، يقول القعيد: أستاذ كرم، ما الذى تستدعيه من لقائك الآن بمحمود درويش؟، يرد كرم مطاوع: اللقاء الآن يستدعى معايا لقاء تم فى عمان من سنتين ودار حوار بيننا حول تجربة مسرحية مشتركة، وتوظيف الشعر فى المسرح، واسأل الأستاذ محمود درويش عن هذا الأمل؟، يجيب محمود: دعنى أعترف أن الطموحات مازالت طموحات لا تزيد ولا تقل عما كانت عليه منذ عشرين عاما، وكلما ألتقى بك يا أستاذ كرم أشعر بأننى محرض على تنفيذ طموحاتى، ولكن ظروف حياتى وعملى وعدم استقرارى، لم تسمح لى بأن أفى بأى وعد من الوعود التى قطعتها على نفسى وعليك وعلى جمهور المشاهدين الغائبين، لذلك أرجو ألا يصدقنى أحد إذا وعدت بأننى سأحقق طموحاتى قريبا.

يعلق كرم مطاوع: طبعا هذه دعوة لليأس من جديد، ولكن أنا أصر على أن أستلهم من أشعارك كل جذور الدراما التى أستطيع أن أستشرفها من الإلياذة والأوديسا، أو حتى من «إس إليوت»، وأزعم أنك دون أن تريد، هناك نبض دراما فى أشعارك يا أستاذ محمود، هناك صياغات درامية بإيقاعها الشعرى فى قصائدك، أردت أم لم ترد، وأنا أزعم أن شعرك كما هو، يستطيع المخرج أن يتناوله بنوع من المسرحة، ويقدمه فى قالب درامى، فهل لديك قصيدة ترشحها لهذا التصور المسرحى، يجيب محمود: أنا سعيد جدا بهذه الملاحظة القائمة على قناعة من فنان كبير، وأتمنى أن يودع شعرى للتصرف من فنان مثلك، فإذا استطعت أن تربط دراما بشعرى، فأنا أعدك أن أقوم بالتمثيل، ودعنى أرشح لك قصيدة (مديح الظل العالى)، لأنها تحتوى على عناصر مسرحية وحتى سينمائية، يعلق كرم مطاوع: عظيم، عظيم، مديح الظل العالى، رائع، فيها دراما.

يسأل القعيد سميح: كيف رأيت مصر، كيف رأيت الآلاف من مصر يستمعون لشعرك؟، كيف مشيت فى شوارع فيها سكان عرب كيف مشيت فى القاهرة؟
سميح: حقيقة لم أخرج منها بعد، فطيلة حياتى لم أشاهد عمارة 10 أدوار جميع سكانها من العرب، ولم أشاهد شارعا كبيرا كل المارة فيه من العرب، وإلى هذه اللحظة حين أنظر إلى الأبراج الجميلة عبر شرفة الفندق الذى أقيم فيه الآن، يصعب علىّ أن أصدق أن كل القائمين فى هذه الأبراج هم من العرب.

يستأذن محمود درويش لارتباطه بموعد عشاء عند المناضل والسياسى الفلسطينى جمال الصورانى، لكن الجلسة استمرت.

لمعلوماتك...
5 عدد المرات التى تعرض فيها درويش للسجن
9 أغسطس يوم رحيل درويش عن عمر يناهز الـ67 عاماَ
1 أهم قصائد درويش عن أمه بعنوان «تعاليم حورية» ومن مقاطعها: «تقول لى مثلا: تزوج أى امرأة من الغرباء، أجمل من بنات الحى، لكن لا تصدق أى امرأة سواى.. ولا تصدق ذكرياتك دائما.. لا تحترق لتضىء أمك، تلك مهنتها الجميلة»








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة