أتصور أن أعقد مشكلة تواجهنا كمصريين على الصعيد النفسى خلال العقدين الأخيرين هى: أننا لا نعرف كيف نعيش.. بمعنى أن الرضا بالمقسوم قد غادر نفوس المصريين، فلا الغنى راض بما لديه مليارات، فيعيش مشغولاً بجمع المزيد وتعزيز الرصيد، مهموماً بالموجود، خائفاً عليه من الضياع والتبديد، ويظن السعادة هناك..
عند السراب الذى يتراءى من بعيد، ولا الفقير قانع بما لديه من ستر وصحة وأولاد نابهين، بل يتوهم أن جنة الدنيا هناك.. عند المنعطف الذى لا يأتى أبدا.
وهكذا تمضى الأيام والأعمار لدى هؤلاء وهؤلاء على شوك القلق والتوتر، فتنزف السعادة حروفها الأخيرة ومعانيها الجميلة فوق أعواد الشوك التى نثروها فى دروبهم طائعين، فلا العين تعرف طعم النوم الهانئ، ولا القلب يتذوق معنى الطمأنينة، ولا النفس تهتدى إلى طريق السكينة، فتفقد الحياة مغزاها ومعناها، فتصبح وتمسى مجرد أكل وشرب، ونوم واستيقاظ، وأقوال وأعمال روتينية تكرر نفسها، فلا طعم ولا لون ولا رائحة، وما هى إلا دوامة تجر الناس جراً إلى هوة ما لها من قرار.
فى سنين العمر الأولى كنتُ أنضم إلى فرق فحص حقول القطن، وكنا نمكث تحت لهب الشمس شطر اليوم.. نعانى حرقة الشمس، وألم العطش، فإذا وجد الواحد منا إصابة على ورقة.. صاح مهللاً لينبئ من فى الحقل عن مهارته ودقته.. كنا نعانى ونقاسى، ورغم ذلك كنا نغنى للنسيم حتى يأتى ليرفع عن أجسامنا حرارة الشمس الجاثمة، وكنا نغنى حتى تأتى ساقية الفرقة بالماء فتطفئ نار العطش الذى شقق حلوقنا لبعض ساعات مرت وكأنها دهرا.. لقد كنا نـُسعد أنفسنا ونـُفلسف الألم حتى تغيب الشمس، وكنا نبحث عن السعادة فى أتفه الأشياء.
ولا زالت أذكر كيف كنا نحلق حول إبريق الشاى ليلاً.. نرتشف أكواب الشاى فى تمعن نتسامر فى محبة.. نضحك حتى نُصاب بالتعب من كثرة الضحك. لقد كنا ننتشل أوقات الضحك من براثن الهموم والأحزان، وكنا نتمايل مع المحن بلا انكسار حتى تمر ريحها العاتية بسلام، و كنا نلتمس السعادة فى أقل الأشياء وفى أبسطها، وكنا راضين بستر الله والصحة.
أما الآن، فقد تبدل الحال غير الحال، حيث تحولت نفوس كثير منا إلى النقيض بزاوية مستقيمة، فخلعت بلا اكتراث رداء التفاؤل، وأسبلت بلا تمهل رداء التشاؤم، ثم أبت إلا أن تلقى بمنسأة الرضا فى بحر الظلمات، وتقبض طواعية على جمر السخط والقنوط بلا اضطرار إلى ذلك...
أين رحل هذا الأمل الجميل الذى كان يملأ جوانحنا فى مواجهة عاتيات الأمور؟
أين ذهب هذا التفاؤل الذى كنا نتحلى به فى أحلك المواقف؟
أين هذا اليقين الذى كان يملأ قلوبنا بأن الفرج قادم من جوف الكرب لا محالة، والنور منبثق من باطن الليل الحالك لا شك؟
أين..وأين..؟ لقد ذهب كل ذلك أدراج الرياح.
عبد القادر مصطفى عبد القادر يكتب: تعالوا نَعِش.. !!
الخميس، 09 يوليو 2009 11:57 ص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة