فى مدينة المحلة الكبرى، حيث قضيت جانبا كبيرا من طفولتى وشبابى، أقيمت فى مطلع الثمانينات كنيسة إلى جوار منزلنا تسمى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل، فشرع على الفور صاحب المنزل الذى نسكن به إلى تحويل جراج أسفل العقار إلى مسجد سماه مسجد فاطمة الزهراء ليكون فى مواجهة الكنيسة، ثم حصل على موافقة المجلس المحلى لتغيير اسم الشارع الذى يقع به المسجد والكنيسة إلى شارع فاطمة الزهراء.
هذا التصرف عنى تغييراً فى المزاج العام للمدينة، فالمحلة الكبرى لمن لا يعرفها مدينة مفتوحة طوال عمرها على كل الأراء والأفكار وتتعايش فيها الأديان بسلام، ومن أشهر مدارسها مدرسة الأقباط التى تقع داخل الكنيسة وتجاور جامع أبو الفضل الوزيرى، فى منطقة تعرف باسم سويقة الأقباط، ويلتحق بها المسلمون دون تمييز.. فى نفس الوقت الذى كان فيه مدرسة أخرى تسمى الجمعية الخيرية يلتحق بها المسلمون والأقباط أيضا دون تمييز.
ورغم أن المحلة من البلاد التى تنشط بها جماعة الإخوان وجمعية أنصار السنة، فى نفس الوقت الذى تحتفظ فيه برصيد تاريخى لحزب الوفد وحضور قوى لليسار فى الحركة العمالية.
باختصار هى مدينة يتمتع أهلها بتدين ملحوظ سواء مسلمين أو مسيحيين، وتنفتح فيه على كافة الأفكار السياسية بما فى ذلك الماركسية، وهكذا عاشت سنوات طويلة تحافظ على هذا التنوع وتجعله رصيداً لها يزيد من تماسكها ولا يؤدى إلى اقتتال أو تناحر بسبب الأفكار أو المعتقدات.
لكن تطورا كبيرا حصل فى المدينة التى بدأ أهلها يضيقون بالاختلاف منذ نهاية السبعينيات، وتحديدا بعد الهجرة الكبيرة للخليج والاحتكاك بالأفكار الوهابية السلفية، فعاد العاملون من السعودية بمزاج أكثر ضيقا بالآخر ويميل للتطرف، لذلك كانت السرعة فى تشييد المسجد وتغيير اسم الشارع.
المحلة الكبرى نموذج مصغر لمصر كلها، فحركة أسلمة الشوارع لم تعد حكرا على المحلة، وإنما انطلقت إلى كل أنحاء مصر، ففى الدقى وإلى جوار نادى الصيد يوجد شارع يحمل اسم ميشيل باخوم تم تحويله إلى شارع النور.. رغم أن ميشيل باخوم معمارى مصرى مميز أسس مع أحمد محرم عام 1950 أقدم مكتب تصميم عربى لمشاريع الهندسة المدنية الكبرى، وهو "المهندسون الاستشاريون العرب" "محرم – باخوم".
وكان باخوم أستاذاً لعلم هندسة الإنشاءات بكلية الهندسة جامعة القاهرة. وقام بتصميم، ومراجعة تصميم معظم الجسور والمطارات والأنفاق والقناطر وصوامع الغلال فى مصر والكثير من الدول العربية والأفريقية، وهو صاحب فكرة إنشاء استاد القاهرة، لكن كل ذلك لم يشفع له فتم رفع اسمه من على لافتة الشارع.
نفس الشىء حدث فى شبرا، حيث أشهر ميدان فيكتوريا إسلامه، وتحول إلى ميدان نصر الإسلام، رغم أن فيكتوريا هى سيدة يونانية وأول من سكنت الميدان وانتقلت المعركة إلى لافتات المحال، حيث وضعت بعض المحال لافتات تقول عصير فيكتوريا.. لترد على محال أخرى عليها لافتة عصير نصر الإسلام!
ومثل هذه التصرفات لا تعتبر بسيطة أو عارضة لأنها تنتشر فى كل مصر وهى تعطى إحساسا للأقباط بأنهم أقلية غير مرحب بها، مما يزيد الشعور بالغبن لديهم، ويجعل الناس فى كل أنحاء الوطن فى حالة استنفار غير مبرر، لدرجة أن يتحول خلاف تافه على رهن زجاجة مياه غازية إلى معركة بين المسلمين والمسيحيين تضطر معها قوات الأمن إلى الوصول إلى القرية بأعداد تفوق السكان وفرض حظر التجول.
طوال التاريخ البشرى لم ينعم أتباع الأديان بعيشة مشتركة فى معظم أنحاء العالم وحتى الآن، لكن مصر ظلت لسنوات طويلة بمنأى عن رياح التطرف، لكن هذه العدوى انتقلت إلينا فى السبعينيات وتصاعدت فى الثمانينيات، حتى وصلت إلى فتنة طائفية حقيقية ليست خافية على أحد.
كتبت عدة مقالات فى اليوم السابع عن مظاهر ودوافع التطرف والفتنة، وفى كل مرة يسألنى القراء هل المسيحيون فى مصر يعانون من الاضطهاد، والإجابة قولاً واحداً أن التضييق على حرية بناء الكنائس وممارسة الشعائر اضطهاداً بسبب الدين.. يجب التوقف عنه.. كما يجب التصدى لملف التعايش بين المسلمين والمسيحيين فى مصر بمنتهى الوضوح والشفافية.
وأعتقد أننا بحاجة ماسة إلى إنشاء مجلس أعلى للأديان يشارك فيه ممثلون للمسلمين والمسيحيين وممثلو المجتمع المدنى، ويتبع هذا المجلس الرئيس مباشرة وتكون له صلاحية التدخل المباشر لرفع مظاهر الظلم والتصدى لأى بوادر للفتنة وإصلاح القوانين التى تحتاج إلى تغيير، وبغير ذلك سنكون كمن يدفن رأسه فى الرمال، بينما الحريق مشتعل داخل البيت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة