فى النصف الأول من ثمانينات القرن الماضى وأثناء دراستى الجامعية سافرت إلى إيطاليا فى العطلة الصيفية، لأن فى السفر سبع فوائد كما يقولون، وأقمت فى ضاحية قريبة من ميلانو تسمى سيجراتى، لا يزيد عدد سكانها عن عدة آلاف ولها راديو محلى يمتلكه شاب فى منتصف العشرينات، تصادقنا وحصل منى على شريط كاسيت لليلى مراد وكان يهدينى يوميا أغنية يا مسافر وناسى هواك.
فى إيطاليا ومبكرا جدا علمت أن الإذاعة شكل تانى عن الإذاعات القومية العامة وهى الصفة اللازمة للإذاعة المصرية منذ نشأتها حتى الآن، صحيح أنه فى كل دولة فى العالم توجد محطة إذاعة عامة، لكن إلى جوارها عشرات وربما مئات المحطات الإذاعية الخاصة المتخصصة والمختلفة جدا.
إذاعة سيجراتى التى استمعت إليها قبل خمسة وعشرين عاما مجرد إذاعة فى ضاحية صغيرة، تخدم عدة آلاف من المواطنين، تذيع لهم الأغانى التى يحبونها، وتنقل أخبار المجتمع المحلى ونشاطاته، وتقدم الخدمات التى يحتاجونها مثل مواعيد الحافلات والقطارات، وحركة السير منها إلى ميلانو والعكس، وأين يوجد التكدس، واقتراحات بالتحول إلى طرق بديلة وغيرها، إضافة إلى تلقى مكالمات الناس المحليين على الهواء لمناقشة مشاكلهم وقضاياهم.
لكن إذاعة سيجراتى ليست النموذج الوحيد، هناك إذاعات للموسيقى والغناء وأخرى للخدمات، وإذاعات للمشاكل العاطفية، وإذاعات للدردشة فقط، وإذاعات للأخبار وأخرى للرياضة وهكذا فى كل مجال من مجالات الحياة توجد إذاعة يتابعها الناس وهم فى سياراتهم أو منازلهم، لذلك لا يزال للراديو بريقه حتى الآن رغم انتشار محطات التليفزيون الخاصة عبر الكابل أو المحطات العامة أو حتى الإنترنت الذى غير وجه الحياة على الكرة الأرضية لكنه لم يؤثر على مستمعى الإذاعة فى أوروبا وأمريكا.
منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما وأنا أحلم بانتقال هذه التجربة إلى مصر، حتى أنشأ صفوت الشريف وهو وزير للإعلام الإذاعات المتخصصة مثل إذاعة ألأخبار والموسيقى والتعليمية والكبار والأغانى، ثم خطت مصر خطوة أخرى نحو الإذاعات الخاصة بنجوم "إف إم" وكان مفترضا أن تكون بداية لإنهاء سيطرة الحكومة على الإذاعة ودخول القطاع الخاص هذا المجال لنشهد راديو مختلفا يتنافس فيه الناس بحرية على المستمعين، بما يعنى عودة الحيوية للإذاعة المصرية ودخول دماء جديدة وأفكار جديدة لصالح الناس لكن ذلك لم يحدث.
فى العالم نظريتان للتعامل مع الإعلام الأولى شمولية تعتبرها ذراعا لتسويق السياسات الحكومية والسيطرة على الناس فى الدول غير الديمقراطية، والثانية تعتبر الإعلام من حق الناس وليس من حق الحكومة، لذلك فهو فى الأصل ملكية خاصة، لأفراد وشركات يخضعون للقانون العام.
ومنذ أممت مصر الصحافة الخاصة بعد الثورة لا يزال معظم المسئولين فى مصر يعتمدون على الإعلام فى دعم أركان الحكم، لذلك يضيقون بكل ما هو خاص سواء كان صحافة أو تليفزيون أو إذاعة، صحيح أن مصر خطت خطوات كبيرة على طريق الصحافة الخاصة، لكن تشبث الدولة بالإذاعة والتليفزيون يتناقض مع كل ما يقال عن الديمقراطية والحرية وتعدد الآراء.
ورغم أن البرنامج الانتخابى للرئيس مبارك فى عام 2005 كان ينص على إنشاء جهاز قومى لتنظيم البث الإذاعى والتليفزيونى، وتحول الدولة من مقدم للخدمة إلى منظم لها والسماح للقطاع الخاص بامتلاك المحطات التليفزونية والإذاعية الأرضية، فإن كل ذلك ظل حبيس الأدراج ولم يخرج إلى النور بل العكس تماما، حيث زادت ملكية الدولة للإعلام وتعددت القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية ولا تزال تتزايد.. حتى أن الحلم بإذاعات على غرار إذاعة سيجراتى أصبح بعيد المنال جدا ويستحق أن نغنى له فكراك والنبى فكراك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة