بعد أحداث الزاوية الحمراء الطائفية فى تسعينيات القرن الماضى، التقيت أحد المشاركين فى هذه الأحداث، وحكى لى كيف أنه أجاز استحلال أملاك المسيحيين، كانت هذه هى المرة الأولى التى أسمع فيها عن موضوع الاستحلال، لكنه شاع فى التسعينيات ولجأت إليه بعض الجماعات التكفيرية التى اعتبرت المسيحيين فى مصر كفاراً، فى نفس الوقت الذى كفرت فيه الحاكم والمجتمع المسلم على السواء.
وخلال أحداث دير أبو فانا استمعت فى راديو قبطى على الإنترنت لشخص يدعى "مجلى" كان يصرخ ويهذى ويدعو المسيحيين فى مصر للتوجه للدير للدفاع عنه، بعدما صور الأمر على أنه حرب إبادة ضد الأقباط، بينما الموضوع كان صراعاً على الأرض بين الرهبان فى الدير وبعض العربان الذين يسطرون على الأراضى فى المنطقة.
وخلال عشرين عاماً لم تتوقف الفتنة عن الاشتعال بين الحين والآخر، وكنا فى معظم الأحيان نتحدث عن أصابع خارجية وراء الخلافات بين المسلمين والمسيحيين، حتى بدت هذه الأحداث تتزايد بحيث لا يكاد يمر يوم واحد دون أن نسمع عن احتكاك بين مسيحيين ومسلمين فى كل ربوع مصر تقريباً، ولم يعد ممكنا أو مقبولا الحديث عن أيدى خارجية أو الاعتماد على نظرية المؤامرة فى تفسير حالة الضيق بالآخر التى أصبحت تميز العلاقة بين المصريين جميعا.
الواقع يقول إن المسيحيين المصريين يشعرون بالاضطهاد والتمييز، فهم لا يتمتعون بحرية ممارسة شعائرهم الدينية، ويعانون الأمرين إذا أرادوا بناء أو ترميم كنيسة، ويتحدثون فى نفس الوقت عن حملة تستهدف البنات المسيحيات لتزويجهن بشباب مسلمين.
فى المقابل يرى المسلمون أن الدولة وتحت ضغوط أجنبية أصبحت تميز المسيحيين، وتتعامل معهم معاملة خاصة، مستدلين على ذلك بواقعتين، الأولى هى حين نشرت جريدة النبأ صوراً لراهب مشلوح يمارس الجنس، فانتفضت الكنيسة وانحازت الدولة، وقررت نقابة الصحفيين فصل ممدوح مهران رئيس تحرير النبأ من عضوية نقابة الصحفيين، وكذلك فى قضية وفاء قسطنطين التى أشهرت إسلامها، ومع ذلك سمحت الحكومة للكنيسة بنقلها لدير وادى النطرون دون حماية لها.
وتكشف هذه الأمثلة وغيرها عن شكوك متبادلة بين الطرفين، حيث يرى كل طرف أن الحكومة تميز الآخر عليه، وهو أمر زاد من حالة الاحتقان بين الجانبين كثيراً، ولم يعد النسيج الوطنى المصرى متماسكاً كما كان، وانتشرت روح التطرف وأصبح تأثير المتطرفين من الجانبين على الناس أكبر بكثير من أى دعوة للاعتدال.
وبينما كان مفروضاً من الإعلام أن يلعب الدور الأبرز فى إشاعة ثقافة الاعتدال وروح التعايش بين الناس، تحول إلى أداة من أدوات التطرف وزيادة الفتنة، وانتشرت الفضائيات الدينية التى ساهمت بشكل كبير فى إشاعة مناخ التطرف، بينما مصر الرسمية تصر على أن الحالة بين المسلمين والمسيحيين بخير.
والحقيقة المرة التى يجب الاعتراف بها أن مصر لم تعد متسامحة، والمصريون فقدوا التعايش الذى ميزهم عن معظم شعوب الأرض لآلاف السنين، ولم يعد مقبولاً بأى حال من الأحوال الاكتفاء بنظرية المؤامرة وإلقاء التهم على الخارج، لأن العيب فينا نحن ولن ينصلح الحال ما لم نصلح من أنفسنا.
مصر دولة مسلمة، لكنها تستند إلى تراث مسيحى عريق، تشكل عبر التاريخ من مزيج من الحضارات والأديان، وحينما دخلها الإسلام لم يلغِ أى دين أو حضارة أو بشر عاشوا على الأرض، ومن يتصور أنه يمكن إلغاء المسيحية من مصر واهم، لأن الأقباط المصريين هم أبناء هذه الأرض، دافعوا عنها وعن دينهم فى وجه الاضهاد الرومانى واستشهد عشرات الآلاف من المصريين المسيحيين حفاظا على الأرض والدين على السواء. وهم لن يضحوا بهذا التاريخ أو الدم أبداً.
كما لا يمكن إلغاء الإسلام من مصر لأنه دين الأغلبية المتدينة الممسكة بدينها، الأغلبية التى عاشت على هذه الأرض لأكثر من 1400 عام، ومنحت المسيحيين حقوقاً ثابتة منذ اليوم الأول لدخول الإسلام لمصر لا يجوز نقضها، أو التملص منها.
وما لم يدرك الطرفان أن مصلحة مصر فى تنوعها، وفى استغلال هذا التنوع فى خلق حالة تعايش حقيقية بين الطرفين فقل على مصر السلام.