طالعتنا الصحف على اختلاف ألوانها والإذاعات والفضائيات بأطيافها ووسائل الإعلام كافة فى الآونة الأخيرة، أزمة نشأت بين خبراء وزارة العدل وبين وزاراتهم، وقد أدهشنى كثير أن أجد العديد من الكتاب والمثقفين وبالطبع رجل الشارع العادى لا يفهم طبيعة هذه الأزمة.
وبادئ ذى بدء لابد لنا من معرفة مفهوم عمل خبراء وزارة العدل وطبيعة عملهم من ناحية وصولا إلى سر الأزمة الأخيرة للخبراء مع وزارة العدل.
أولاً خبراء وزارة العدل هم فئة من طليعة خريجى الجامعات ونوابغ دفعاتهم الذين اجتازوا الاختبارات المطلوبة الشفاهية والتحريرية واختبارات الذكاء واللباقة وحسن المظهر، وبخلاف انتقائهم من أفضل الأسر والعائلات التى لا يشوبها شائبة ثم ينالون فى النهاية شرف الانتماء إلى (مهنة البحث عن المتاعب) – مهنة الخبير – وهم ثلاثة تخصصات "خبراء هندسيون، وخبراء حسابيون، وخبراء زراعيون" ويكون عملهم متدرجا من معاون خبير ثم مساعد خبير وصولا إلى كبير خبراء، ويناط بهم مهمة فى غاية الخطورة وهى إبداء الرأى الفنى فى القضايا التى تحال عليهم من جميع أنواع المحاكم، بالإضافة إلى ما قد يحال عليهم من النيابات العامة ومحاكم الأسرة، ويكون الخبير مكلفا بالوصول إلى الحقيقة فى النزاع المعروض أمام المحكمة حتى تستند المحكمة إلى تقريره فى أحكامها وتجعله مكملآ لحكمها.
ومن هنا كان الخبير هو عين القاضى التى يرى بها وجه الحقيقة، وأذنه التى يسمع بها صوت الحق فى تلك القضايا بأنواعها وباختلاف قيمها وظروفها مرورا فى ذلك بمشاكل جمة ومصاعب خطيرة حتى إتمام وإنجاز مأموريته، ويتطلب ذلك منه استلام القضية ومراجعتها ثم إخطار الخصوم للحضور للمناقشة بالمكتب ثم إجراء المعاينات اللازمة إن كان ذلك مقتضى، ثم الانتقال إلى العديد من الجهات الحكومية وغير الحكومية للاطلاع على ما قد يراه ضروريا من مستندات أو سجلات أو دفاتر، وسماع الشهود .....إلخ.
وحتى ينتهى فى النهاية إلى إيداع تقريره الذى يخضع للمراجعة الأولى والمراجعة الثانية ويكون تقريره حاسما فى النزاع المطروح.
ماهى المشكلة إذآ؟.. الخبراء يعملون حتى وقتنا هذا ونحن على مشارف سنــــة 2010 وفى ظل التطور الغير مسبوق فى شتى أنحاء المعمورة - بموجب مرسوم ملكى صدر عام 1952 ولم يتم تطويره أو تعديله أو تغييره ليساير تلك التطورات وكأننا ما زلنا نعيش فى العصر المظلم أو فى ظل النظام الملكى، ويعملون فى بيروقراطية عقيمة تعوق انطلاقهم نحو إنجاز مهامهم بالجودة الملائمة.
ولقد مرت عشرات السنين يطالب خلالها الخبراء بتطوير قانونهم بما يسمح لهم بأداء عملهم بسلاسة ويسر ويوفر لهم الحماية والحصانة الملائمة لمسئولياتهم فضلا عن توفير المناخ الملائم ماديا ونفسيا.
ولكن للأسف الشديد المشروع الذى عكفوا على دراسته وإعداده لم يحظ بالاهتمام ولم يعرض على مجلس الشعب لإقراره، وفضلا عن ذلك فقد علموا أن مشروعهم الذى تقدموا به قد استبدل بمشروع آخر لا يحقق طموحاتهم ولا يلقى قبولا منهم ثم لم يعرض أيضا على مجلس الشعب حتى انتهت تلك الدورة البرلمانية دون أمل لعرضه وهو ما أثار حفيظة الخبراء وكان له أكبر الأثر فى تعميق جرحهم ولا يفوتنا هنا أن ونوضح أن الخبير الذى يناط به الفصل فنيا فى النزاعات بين الأفراد والشركات والحكومة وغيرها من الأطراف وهى نزاعات قد تصل قيمتها إلى الملايين أو عشرات الملايين مطلوب منه وفقا لدستور مهنته وآدابها أن يحافظ على مظهره الحسن، فضلا عن عدم جواز اختلاطه بعامة الناس وابتعاده عن الأماكن العامة شأنه فى كل ذلك شأن القاضى فى سلوكياته.
ماسبق كان ضروريا عرضه وصولا للمشكلة الأخيرة التى نشرتها وسائل الإعلام المختلفة وهى صدور قرار منع تسليم أوراق القضية إلى الخبير وأن يكون على الخبير الانتقال إلى المحكمة المختصة للاطلاع على القضية بالمحكمة ثم يودع تقريره فيها اعتمادا على هذا الإطلاع لدى كاتب الجلسة بالمحكمة.. وهنا لنا وقفة لتوضيح لب المشكلة وأساس الخلاف..
المشكلة لا تكمن فى انتقال الخبير إلى جهة أو محكمة إذ إنه بالفعل ينتقل إلى أية جهة حكومية أو غير حكومية، يرى أن الاطلاع لديها سيكون له أثر منتج ويساعده فى كشف الحقيقة، ولكن ألا تتوافر أوراق الدعوى أو النزاع ذاتها أمام الخبير عند مباشرته لمأموريته حتى يقوم بدراستها وفحصها ومناقشة الخصوم فيها فكيف يصدر تقريرآ حاسمآ فيها؟
هناك قضايا تكون مستنداتها معبأة فى كراتين وأحيانا فى أجولة وكل مستند بها له قيمته مثل إيصالات التحصيل فى قضايا الاختلاسات وأوراق العملية الانتخابية وبطاقات إبداء الرأى فى قضايا الطعون الانتخابية، وقضايا البنوك وقضايا النزاعات بين الشركات...... إلخ، وهناك دفاتر تصل إلى الخبير فى أحراز فى قضايا الاختلاسات ويستغرق فحصها شهورا أو يتم تشكيل لجان من الخبراء لإنجازها، فكيف يكتفى الخبير بالاطلاع عليها لدى كاتب الجلسة فى محكمة ما؟ ثم يعود وكأن طلاسم وألغاز القضية كلها قد تم حلها بهذه الزيارة أو المشاهدة المباركة التى تسمى "الاطــلاع".. إنها مستندات مؤثرة وجوهرية يتعين على الخبير فحصها بكل دقة ليكون رأيه سديد.
وأخيرا... هل يستطيع أى قاضى فى أى مكان من العالم أن يطلع على القضية ثم يعود إلى مكتبه فيكتب حكمآ فيها ؟؟؟؟
إن هذا القرار يستحيل تنفيذه عمليا، وهذا هو سر ثورة الخبراء الأخيرة.
فالخبراء لا يقفون وقفتهم لشعور منهم بامتهان كرامتهم حسبما كتب أحد الكتاب فى جريدة غير صباحية منذ أيام – إطلاقا – لسبب بسيط جدا وهو أنهم بالفعل ينتقلون إلى حيث توجد المستندات اللازمة لكشف وجه الحق فى القضايا.. وإنما هم ثائرون لعدم إمكانية العمل هكذا ولاســـتحالة تنفيذ هذا القرار عمليا.
* خبير بوزارة العـــــــــدل
