فصل من رواية ياسمين مجدى الفائزة بجائزة دبى

الجمعة، 31 يوليو 2009 12:04 م
فصل من رواية ياسمين مجدى الفائزة بجائزة دبى تدور أحداث الرواية حول فكرة الحياة المؤقتة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الروائية ياسمين مجدى فازت مؤخرا روايتها "معبر أزرق بلون الياسمين" بالمركز الأول لجائزة دبى الثقافية فرع الرواية، وهى ليست الجائزة الأولى للكاتبة، حيث حصلت على جائزة نادى القصة فى الرواية عن قصتها غير المنشورة "زوار من عالم الظل"، وجائزة قصور الثقافة عن روايتها غير المنشورة أيضا "بر نحح"، وكانت قد صدرت لها رواية "امرأة فى آخر عمر الأرض" عن "الدار للنشر والتوزيع"، واليوم السابع ينشر فصلا من روايتها الفائزة بجائزة دبى.

عرقى الذى يتكون فى أنسجة ملابسى، لا يحتاج يا سبأ أن أغسله، إننى أكوِّمه فى الدولاب، كما أكوِّم خطواتى فى الطرقات كل يوم، فلا تجرجرين الملابس يا سبأ رغماً عنى إلى طبق ملىء بالمسحوق، فحين تعيدينها، تعود رائحة العرق إليها. لا تغسليها يا سبأ، اسمعى كلامى مرة واحدة، دون أن تضحكى، وتخبرينى أن حتى البنات "الشلحفات" الفلاحات فى المعهد لا يفعلن ذلك.

عليكِ أن تصدقينى، وألا تغسلى الملابس، التى حين أنظر إليها، تمتصنى، فأهرب، وأرتديها، وأمضى. خمس دقائق وأصل، حيث اضطر للجلوس والانحناء للأمام على الشباك الزجاجى، أرى وجوهاً كثيرة، تدس أصابعها من الفتحة الصغيرة بجنيه أو أكثر، فأمرر لهم الورقة الصفراء.. ألعنهم، وأضع لوحة حديدية تسد الفتحة، وأتشاغل بِعَدّ الجنيهات، وأنا أخفى فى أعماقى صورتك.

أشعل أشياءً كثيرة فى الليل.. وأنا أتذكر نكتة عن رجل قتل زوجته، وحفر لها فى شقتهم حفرة ألقاها فيها، ناسياً أنهم فى الدور الرابع، فعادت له الزوجة سليمة تطرق بابه. أكتشف فى تلك اللحظة من النكتة أننى لا أستطيع الاستمتاع بحرق الأشياء كثيراً.. لأن كل ما أمامى طبق حديدى صغير، يحمل شمعة تتضائل وسط كم من رماد ينمو حولها مع الوقت. أغمض عينيَّ، وأنام إلى جوار الطبق، فيمر الليل، وتحملنى الملابس فى الصباح إلى الطريق.

سبأ لا تأتى ناحية الثلاجة، أبداً.. أتثاءب فى منتصف الليل، وأنا أطلب منها:

- متعملى لنا كوبيتين لبن دافى؟

ترفض بهزة من رأسها خفيفة، دون أن تنظر لى، لأظنها خجلة، لكننى أكتشف بعد ذلك أن الكسل هو السبب.. والعلاج الوحيد القادر على إثارة سبأ لتتحرك هو رغاوى الصابون. تتركتى نائمًا، وفى الصباح أجد باب شقتى مفتوحاً، نسَيَت أن تغلقه وراءها.

الهواء قليل، ورائحتى تملأ المكان، وصوت الساعة هو الوحيد، الذى يخترق أذنى العالقة فى تلك اللحظة بين البنطلون الأصفر والجاكيت الجلدى الأسود.. بالإضافة إلى ذلك المكان ضيق، أقرفص قدمى إلى قلبي، فألتقى بنفسى.. أدفع الباب بيدى، وأدلى قدمى خارج الدولاب، حين أسمع دقاتها الثلاث على الباب، فأعرف أنها قادمة، تجلس إلى جوارى فى الدولاب، وتخرج من جيبها الكتاب، وتحكى عن الممرضة التى أحبت الطبيب، ثم اكتشفت خيانته.. تقودنى إلى الزوجة التى تخون زوجها مع صديقه، أو إلى الصديق الذى يحاول حماية صديقته.

نغلق ضلفتى الدولاب علينا، أرى حكاياتها كلها تدفع بشخوصها ليسكنوا الدولاب.. يتحركون فى ظل زحام البنطلونات، والقمصان، والبذلة الوحيدة.. يحاولون شد حبل الزمن.. فيقودون سياراتهم، ويقبَّلون عشيقاتهم، ويجردونهن من ملابسهن قطعة قطعة فوق رأسى، التى أحنيها حتى لا تخجل سبأ، ولتستمر فى الحكي. حين ننتهى نخرج إلى الحجرة، فنشعر أن كل الأشياء تصبح فضفاضة بالطريقة نفسها، فضفاضة، حتى أنها أكبر منا، وأبعد من أن نلمس جدرانها، نغلق خلفنا الضلفتين، اللتين تظلان طوال الليل صامدة أمام الأصوات المنبعثة من خلفهما، وصوت الطَرق، والسيارات، والقبَّل، والبكاء.

دائماً بينى وبين الأصوات جدار، ضلفة دولاب، أو شباك زجاجى، أجلس خلفه، فيؤلمنى ظهرى من طول جلستى على الكرسى، ومع الوقت تؤلمنى يداى من تكرار حركتها فى الاتجاه نفسه.. تمتد.. تلتقط النقود.. تتراجع.. تلتقط الورقة الصفراء، ثم تمدها لهم.. يعلو صوت عبد البديع يدعونى إلى لقمة الجبنة القديمة والبصل الأخضر، فأشكره بصمتى، كأننى لم أسمع، هو الذى تتحرر يده من تلك الحركة الرتيبة التى أقوم بها، حين يضع قطعة خشبية تسد شباكه، فتدور يده فى دائرة طبق الفول، ويظل الناس يتوافدون على شباكى أنا.

شبابيك، تطل منها وجوه، ثم تمضى، ألوِّح لسبأ الواقفة فى الشباك، فتدخل بسرعة، وتغلقه فى وجهى. دون أن تكمل حكاية الزوجة التى عادت إلى زوجها رغم خيانته، فأنجبت له بنين وبنات، تسرد سبأ اسمهم اسماً اسماً، فيملأون جيوب قمصانى والفتحات الممزقة فى بنطلوناتى.. ويؤلموننى طوال الليل بضجيج بكائهم، ألعن أمهم، وأنا أراها أسفل أبيهم، تتلوى رغم خيانته لها، وتتركهم يملأون أذنى. ليتنى تدخلت حين حكت سبأ الحكاية المكتوبة فى الكتاب، حتى أحوِّل مسار القصة وأختار الأحداث التى تملأ دولابي، فأجعل البطل يضع فى فمه عبوة بيروسول كاملة، أو كلور، أو بوتاس. وإذا كان هؤلاء الناس فى القصص لا يمتلكون مثل تلك الأشياء، فليُفتح أنبوب الغاز عن آخره، ويمتلأ دولابى بصوت حشرجة حنجرة، صوت خفيف أحتمله فى أرق الليل، الذى ينتهى بهدوء على عتبة دولاب فضائح العتمة.

تحاول سبأ التخلى عن مهمتها، ومع الوقت ترفض استكمال اللعبة، فتنزوى بعيداً عني، ولا تتردد عليَّ، وأنا لا أرغمها على شيء، لأنها لابد ستعود من جديد، لتدفع الباب، وتفتح الدولاب، وتدلى قدميها.

وإلى أن يحدث ذلك كل ما أملكه هو أن أخط على يدى كلمات تعبر عما أشعر به.

يا أولاد الكلب، لا تلقوا عيونكم إلى يدى تتلصصون، لا تتابعوا يدى، وهى تحمل الأوراق الصفراء إليكم، ابقوا خارج الشباك الزجاجى، ودعونى فى دولابى.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة