اليوم السابع ينشر قصة "قلب" فازت بدبى الثقافية

الجمعة، 31 يوليو 2009 02:29 م
اليوم السابع ينشر قصة "قلب" فازت بدبى الثقافية محمد الفخرانى صدر له من قبل فاصل للدهشة وأثارت جدلا فى الوسط الثقافى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فاز الكاتب محمد الفخرانى مؤخرا بجائزة دبى الثقافية فى القصة القصيرة عن مجموعته "حياة"، وكان قد صدر له من قبل رواية فاصل للدهشة عن دار الدار للنشر، والتى أحدثت جدلا فى الوسط الثقافى، واليوم السابع ينشر قصة "قلب" للكاتب وهى إحدى قصص المجموعة الفائزة بجائزة دبى الثقافية


انفلت قلبها من يديها مع تيار النهر..
البنات يذهبن للنهر نهاية كل عام، يغسلن فيه قلوبهن ليتخلصن من الأحزان وقصص الحب التى تركت كل هذا الألم، يحتفظن بالسعادة والقصص الجميلة فقط، ويبدأان عامًا جديدًا بقلب رائق.

يجلسن على حافة النهر الأبيض الرائق، بحرص تمد كل بنت يدها لصدرها، تباعد بين ضلوعها، فيسلمها قلبها نفسه، تحيطه بيديها، تضعه فى ماء النهر، تفتحه، تغسله من أحزانه، تخبىء سعادته فى جيوبه السرية، بينما يتلوّن النهر بألوان قاتمة تعكره وتؤلمه، ومن بعيد ينادى كل حزن على صاحبته فلا تنظر إليه.

تنتهى البنات من غسل قلوبهن فى لحظة واحدة، ويستعيد النهر لونه فى اللحظة التالية، تضحك البنات، يخلعن ملابسهن، يقفزن فى النهر ويتبادلن قلوبهن، كل بنت تركّب قلب صديقاتها فى صدرها قليلا لتعرف أسرارهن.

وحدها "آكلة قلوب البنات" تذهب للنهر وحيدة، لا تغسل قلبها، تبتعد عنها البنات فتجلس وحدها، تكشف ساقيها، تغمسهما فى النهر برفق، تخرج قلبها الثقيل، تريحه بين يديها فى الماء وتظل شاردة بعيدًا جدًا، لا تفتحه للنهر، تريد أن تحتفظ بأحزانه وقصص الحب التى تعذبت بها، لا تتخلص من أسرارها فيمشى النهر رائقا بين ساقيها.

أسرارها وقصصها الحزينة تزداد كل عام ولا تفرغ قلبها، فيزداد وزنه وحجمه وتضطر أن تتخلص من أحد ضلوعها لتفسح له.
أمنحها أعذب مائى، أتوقف بين ساقيها كثيرًا وأنظر فى عينيها، أسأل: لماذا لا تفتح قلبها لى وتغسله بى؟! ظللت لسنوات أحب أن أعرف أسرارها، قلبها يزداد حزنا، أشفق عليها، أتمنى لو تتخلص من حزنها قليلا، أحب أن ألمس يديها، أحب لونى الرائق بين ساقيها، وأحب جحوظ عينيها الطيب.

"آكلة قلوب البنات".. ربما لأنهم لم يستطيعوا أن يعرفوا ما أكلته فى تلك الليلة البعيدة تحت القمر تمامًا، كانت بجسدها الضخم وشعرها الكهرمان المتشرد تخفى الكائن الذى أكلت قلبه فيما يبدو: هل كان قلب إحدى البنات؟ فلماذا لم ينقص عددهن تلك الليلة؟! بل ازداد فى سبعة عشر بيتا؟!

فمى أحمر.. قلبى أحمر.. أحب ارتداء الأحمر.. ألوّن أظافرى بالأحمر.

ودافئة بشكل مربك، أحيانا يظهر دفئها حولها كسراب مراوغ مثل الذى على سطح الزيت المغلى والصحارى الساخنة، يمكن لدفئها أن يشعل من الشموع والأغنيات ما يكفى لسهرة سعيدة، أو أن يدفئ من الخبز ما يكفى للعشاء، يستطيع عشرة رجال أن يجففوا جلودهم من البرد فى دفئها خلال عشر دقائق أو أقل.
جسمى كبير.. قلبى كبير.. يداى كبيرتان.. عيناى كبيرتان، وفيهما جحوظ طيب كما قال النهر.

ولا تكبر فى العمر، تتعاقب أجيال البنات، يغسلن قلوبهن لسنوات، وتظل هى وحيدة، يتزوجن، ينجبن، وكل أم تحذّر ابنتها فى أول زيارة لها للنهر من "آكلة قلوب البنات": الشابة التى لا تكبر، بينما يكبر قلبها الحزين.

لم أخطف قلبها.. انفلت من يديها، فصحبته معى مثل أشياء كثيرة أسافر بها أو تسافر بى.

نزلت للنهر تحاول أن تسترد قلبها ولم تلاحظها البنات، تسبح خلفه ويبدو كصندوق خشبى صغير يريد السفر، تناديه فيغطس لقاع النهر ثم يطفو لينفض الماء عن نفسه، يسحب الهواء بلهفة، يلتفت لها، تناديه، يغطس ويظهر على مسافات بعيدة.. بعيدة.. حتى اختفى.

ظلت تسبح حتى وجدت نفسها وحيدة فى نهر أبيض رائق يغطى الدنيا. أحبت كل الرجال، اللصوص، قطاع الطريق، المسافرين، الضائعين، المحكوم عليهم بالعذاب، المجانين، ولم يلتفت إليها رجل واحد، كل قصص الحب فى قلبها حزينة، أحبت الذئاب التى تسمعها تعوى فى الليل فتخرج تبحث عن أحدها ولا تجد، أحبت النسور، التماسيح، الوحوش.. أسكنتهم قلبها ولم تطرد أحدًا أبدًا.
عندما تغضب على رجالها تطلق عليهم وحوشها، لو تغضب عليهم جميعًا تضع قلبها على الأرض، تطعنه بسكين كبيرة حتى تتأكد من قتلهم، وفى الصباح ينهضون أحياء فى قلبها ويعذبونها بحبها لهم، أحيانا يتآمرون على تعذيبها فتكاد تموت بحبها.
لماذا لم تنظر للقمر أبدًا؟!

ترك النهر قلبها عند حافة غابة صغيرة يمر بها كل يوم، فاقترب منه ثعلب، تشممه، نظر فيه، سحبه عدة أمتار داخل الغابة، وقبل أن يأكل منه رأى غزالة خائفة تجرى باتجاهه، عرف أن نمرًا يطاردها، ترك القلب وابتعد، توقفت الغزالة قريبًا من القلب مرتبكة لا تعرف لأين تهرب، اتسع القلب لها، قفزت داخله وهى ترتعش، فارتعش هو أيضا بصوت سمعه النمر واقترب، فكرت الغزالة أن تغادر القلب، فأشار لها لتختبئ داخله بعيدًا خلف أشجار قصيرة وبقايا بيت قديم، دخلت ورقدت على بطنها خلف جدار البيت، توقف النمر عند حافة القلب، تشممه، عرف رائحة الغزالة، نظر فى العمق ورأى أغصان الشجر تهتز، أسرع القلب وبدّل المنظر داخله بصحراء واسعة ليس فيها ماء ولا سراب، رفع النمر قدمه ليدخل، فأطفأ القلب كل النور داخله، أظلمت الدنيا فى عينى النمر، تردد لحظات، فكر، تراجع.. ابتعد قليلا ثم التفت للقلب يشك فى خدعة ما.. واختفى.

أضاء قلب "آكلة قلوب البنات" وأعاد المنظر الذى كانت فيه الغزالة، فخرجت، ابتسمت للقلب، قفزت ثلاث قفزات بعيدًا عنه، ثم التفتت تخبره عن كيس من القماش ملىء بالذهب خلف جدار البيت القديم، نظر القلب فرأى أحد اللصوص يخرج من خلف الجدار وبيده كيس الذهب، قبل أن يبتعد فاجأه قاطع طريق وضربه على رأسه بقطعة حديد، تحمّلها اللص وسحب سكينه، كاد أن يطعن قاطع الطريق إلا أنهما انتبها على صوت طلقة رصاص أصابت ساق ذئب كان يراقبهما عند حافة القلب، عوى الذئب وابتعد، ظهر الصياد الذى أطلق الرصاصة، نظر إليهما بسرعة وطارد الذئب، نزل ثلاثة قرود من شجرة قريبة، التقط أحدهم القلب وأخذ يلعب به مع صديقيه وهم يتبادلونه فى الهواء، نظر أصغرهم بداخله فرأى شجرة موز، دخلوا، شبعوا منها وشربوا من شلال صغير، خرجوا ليلعبوا به ثانية، رفعه أحدهم للهواء فهبط نسر ضخم والتقطه صاعدًا به للسماء وهم يصرخون ويقذفونه بالحجارة، فينظر لهم ضاحكا.. ابتعد النسر، وكلما تذكر القرود التفت خلفه كأنه يراهم وضحك، وفوق البحر التفت إليهم، فاصطدم بطفل يصعد للسماء على خيط طائرة ورقية، سقط القلب فى البحر وتمسك الطفل بالخيط، تجمعت أسماك كثيرة حول القلب، أكلت منه لثلاثة أيام حتى خرج فى شبكة بحّارة لم يروا اليابسة منذ عدة شهور.. أمسكت شباكهم بكل السمك الذى كان يأكل من القلب.

فى النهار كان البحارة يضعونه وسط صناديق السمك الذى يصطادونه ليحفظه مجمدًا، وليلا يخرجونه ليدفئهم، يشعلون منه نارًا أو ينامون داخله، وفى الليالى المظلمة يضعونه على مقدمة السفينة ليغطى البحر بنور يكاد أن يكشف اليابسة. فى إحدى الليالى نام البحارة داخل القلب، فقيدهم اللصوص وقطاع الطريق، وحبسوهم بالبيت القديم وخرجوا، أرغموا القبطان على تحويل السفينة لسفينة قراصنة، ثم انشغل القراصنة المبتدئون عن القلب فاقترب نورس وخطفه، وقبل أن يبتعد به هجم عليه النسر الذى اصطدم بطفل خيط الطائرة وأخذه منه لأنه كان يتابعه من أول لحظة انفلت فيها من يدى "آكلة قلوب البنات".. ارتفع به، وضعه على قمة جبل بصحراء بعيدة، ونقل إليه أفراخه من عشها القديم.

بحثت "آكلة قلوب البنات" عن قلبها فى الجزء الأكبر من الدنيا، وضعت فى صدرها بدلا منه شجرة صغيرة، تكبر الشجرة فتأتيها العصافير وتشوّش عالمها، تسقط ثمارها فتؤلمها، تحب حبًا قويًا يقتلع شجرتها من صدرها، تضع قطعة حجر فى صدرها، فتظل معها مدة معقولة، لكنها تتفتت ويتفجر منها ماء دافىء يكاد أن يغرقها، وضعت كرة من الحديد، ظلت معها مدة طويلة حتى ظنت أنها نسيت الحب، وظلت فى نفس الوقت تبحث عن قلبها، كانت تشعر بلسعات كرة الحديد كلما عاشت قصة حب، حتى انصهرت تمامًا فى قصة حب عذبتها، فتخلصت منها فى آخر لحظة قبل أن تقتلها.

احتفظ النسر بقلب "آكلة قلوب البنات" حتى استطاعت أفراخه الطيران فركله بمنقاره ليتدحرج من فوق الجبل، تمسّك القلب أثناء سقوطه بكل رجاله، وحوشه، بيوته القديمة، حتى أنه استرد القراصنة المبتدئون بعدما أوشكوا على الغرق بسفينتهم.

استقر القلب قريبًا من الجبل، رآه رحّالة فاقترب منه، نظر فرأى ماء، خبزا، لونا أخضر، وأشياء بعيدة لم يميزها جيدًا لكنها كانت مطمئنة له، دخل وأكل من خبز دافئ وجبن طازج موضوعين على حافة نافذة قريبة، لم يعرف الرحالة لماذا شعر أن الخبز والجبن هنا لأجله، تناول الماء من يد كبيرة ذات أظافر حمراء امتدت له من النافذة، ونام ساعتين رأى فيهما شابة تشبه وحشًا حنونا.. أحبها الرحالة جدًا فى حلمه، وعندما استيقظ وجد نفسه مغمورًا فى دفئها، فازدادت محبته ورغبته فى العالم، التفت لصهيل خيول تأكل فى عشب يمتد لما لا نهاية بألوان من الأخضر، الذهبى، والبرتقالى، لم يفكر أن يأخذ أحدها، سيترك كل شىء فى عالمه، كما أنه يفضل المشى، توقف عند النافذة فأعطته اليد الكبيرة خبزا وماء.

خرج الرحالة وقبل أن يبتعد جذبته يد حنون من داخل القلب ووضعت فى يده عنقود عنب كل حبة منه بلون لم يره قبل الآن.. سيظل يأكل منه حتى يكمل دورة ممتعة فى الدنيا.

هدأت الصحراء قليلا ثم هبت عاصفة بلون الفضة، دحرجت القلب حتى وصلت به قرية مفروشة بعشب قرمزى مبلل بماء خفيف، عادت العاصفة للصحراء وتركت قلب "آكلة قلوب البنات"، تلفت حوله يحاول أن يعرف مكانه فى العالم، رأى غناء طفلة تجلس قريبًا منه، ابتسم لها، كانت مشغولة بغنائها، وتنظر لأهل قريتها وهم يبحثون عن بيوتهم التى اختفت صباح اليوم عندما كانوا فى أعمالهم.. وحدها الطفلة رأت ما حدث فظلت تغنى أغنياتها الهادئة غير المفهومة لأهل القرية، غنى القلب مع الطفلة فنظرت له.. ابتسمت.. تعارفا بسرعة.. التقطته وذهبت لأهل قريتها وهما يغنيان معًا.

توقفوا يرقبونهما.

وضعته بينهم، توقف القلب عن الغناء وابتسم للطفلة، اقتربت منه امرأة، نظرت فيه، مدت رأسها داخله للحظات ثم ابتسمت للجميع، اقتربت النساء وفعلن مثلها..

دخل أهل القرية قلب "آكلة قلوب البنات"، ونقلوا منه أخشابًا من كل نوع جاهزة ليبنوا بيوتهم.
الطفلة تغنى.

بنوا جسرًا من خشب القلب على نهر أبيض رائق يمر بقلب قريتهم، وكان واضحًا أن النهر يتوقف قليلا تحت الجسر ويفور بمائه حتى يلمس قلبه.. يبدو أنه يقول له اسمًا أو أغنية أو حكاية ما..







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة