خالد صلاح

تعقيبا على تعليقات سلفية على موقع صحيفة «اليوم السابع» الإلكترونية وردا على من يصورون الإسلام باعتباره خصما للدولة المدنية

القراءة الإسلامية للدولة المدنية

الخميس، 30 يوليو 2009 11:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يخطئ هؤلاء الذين يظنون أن كل حديث عن مشروع الدولة المدنية بمعناها المتكامل هو دعوة لما يسميه بعض الأصوليين (بالعلمانية الملحدة)، إن قرأت أنت ما كتبه لى عدد من قراء صحيفة اليوم السابع الإلكترونية اليومية على شبكة الإنترنت تعليقا على مقالى فى العدد الماضى تحت عنوان (إما الحزب الوطنى وإما الإخوان)، فستدرك هذا التربص السلفى الثائر والعاصف بفكرة (الدولة المدنية)، وستعرف كم تتحول أفكار عظيمة ومشروعات فكرية عملاقة إلى رماد تذروه الرياح أمام استمرار المد الأصولى الهادر الذى يخاصم مشروعات التحديث المدنى والديمقراطى، والذى يظن أن مشروع (الدولة الإسلامية) لا يستقيم إلا إذا كان أهل الفتوى والفقه فى مرتبة أعلى من أهل الإدارة والسياسة وفنون الحكم، والذى يتصور أن أى نوع من الحديث المباشر أو المستتر حول العلمانية أو الليبرالية أو الديمقراطية أو المواطنة أو دولة القانون يعنى، حتما وقطعا وبلا جدال، عدوانا على الشريعة والإسلام وعلى تعاليم الله تعالى وحكمه فى خلقه (حاشا لله)!!

تلك التعليقات الثائرة، سلفية الهوى، هى التى تدفعنى مرة أخرى لتجديد الحوار حول مفهوم الدولة المدنية إذ لا أشك مطلقا فى أن حركة الإخوان المسلمين جنبا إلى جنب مع حركات سياسية أخرى تنتسب إلى الإسلام قد وضعت العقل الجماعى المصرى فى مأزق خطر بإصرارها على أن كل مشروعات التحديث السياسى والقانونى، رسميا وشعبيا، فى مصر تتجاوز الشريعة الإسلامية، وتقضى على الهوية القرآنية لأمة محمد، وأنه لا نجاة لنا ولا أمل إلا بالعودة إلى مشروع (الدولة الإسلامية)، وكأن الدولة الإسلامية هنا ستخاصم كل ما استقر عليه العقل الإنسانى من تطور سياسى واقتصادى واجتماعى، وستعود إلى صياغات بائدة فى الحكم والإدارة، لا قدر الله.

من قال لك يا أخى إن الدولة الإسلامية تقف على طرف نقيض مع المدنية والليبرالية والحداثة والعلم والتطور، انظر أنت إلى الاستراتيجية التى اعتمد عليها النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى تأسيس دولته البكر فى يثرب، انظر وتأمل لتعرف أن محمدا النبى كان رمزا للمدنية والحداثة، وكان رسولا للعقل والتنوير، وكان قائدا سياسيا يعرف الحدود التى يقف عندها الوحى ليعمل عندها العقل، ويعرف هو وصحابته الكرام من بعده الأسوار التى لا يجوز للعقل أن يتجاوزها احتراما للوحى وتقديسا لكلمة الله العليا.

ما فعله النبى محمد صلوات الله عليه فى المدينة المنورة هو إعجاز مدنى وسياسى فى بيئة كانت قد خاصمت العقل ووهبت نفسها للبداوة والجهل، ولا يعقل أن يكون المطروح حاليا من مشروعات ينسبها أصحابها، وهمًا، إلى الإسلام هى التى تدعو إلى البداوة والجهل لا إلى العقل والمدنية والعلم.

رسول الله كان يستجير بالكافرين ضد الكافرين فى مرحلة الدعوة الأولى على أرض مكة المكرمة، كان الواقع يفرض عليه أن يستنصر بأحد الكافرين فى مواجهة جحود مشركى قريش وغلظتهم على النبى، ولو فعلها أحد من المسلمين الآن لطاردته حملات التكفير حتى أخرجته من الملة وحكمت عليه بالموت.

رسول الله هو الذى أرسل الجيل الأول من المسلمين إلى الحبشة ليكونوا فى حماية حاكم مسيحى لدولة مسيحية، ولو فعلها أحد من المسلمين اليوم لشكك الأصوليون الجدد فى عقيدته وطعنوا فيه بمقاييس الولاء والبراء.

رسول الله هو الذى رسم وحده خطة الخروج من مكة إلى المدينة، وعقد التحالفات مع أهل يثرب سرا قبل أن ينقل تحالفه معهم إلى العلن، ولم ينتظر البراق ليحمله شمالا حيث يثرب، ولم ينتظر جبريل عليه السلام ليقوده فى الصحراء، كانت الهجرة توجيها إلهيا، لكن التخطيط والتنفيذ كان فعلا بشريا خالصا.

رسول الله هو الذى خطط لمشروع (المواطنة) فى يثرب بمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار وبتحالفاته المتعددة مع اليهود داخل المدينة.

رسول الله هو الذى قرر ملاقاة جيش قريش فى بدر بعيدا عن حدود دولته الوليدة ليحمى النساء والأطفال، ويحمى المكسب السياسى الذى أشعل قلوب مشركى مكة بالغضب والحسرة.

رسول الله هو الذى أقر علنا أمام صحابته أنه لا علاقة للوحى بهذه الحرب حين أمر بأن يخيم جيشه قبل بئر بدر، وحين سأله بعض صحابته إن كان هذا القرار من الوحى أم أنها الحرب والمشورة، فقال صلوات الله عليه إنها الحرب والمشورة ونزل عند نصيحة صحابته الخبراء فى الحرب وعسكر بعد بئر بدر ليحرم جيش المشركين من ورود المياه.

رسول الله هو الذى عانى من هزيمة قاسية فى (أحد) بعد أن خالف الجنود خطته الحربية فى مواجهة جيش قريش، لم يكن للدين الجديد ولا للوحى علاقة بالهزيمة، كانت الخطط والتنفيذ هى نقاط القوة أو الضعف فى المشروع النبوى للاستقرار السياسى فى دولته الحديثة.

رسول الله هو الذى قرر حفر الخندق حول المدينة ليحمى دولته خوفا من بطش جيوش (الأحزاب)، ولم يترك الأمر للملائكة، ولم ينتظر الوحى ليقرر ما هو الأصلح لأهل يثرب فى مواجهة هذا الجيش الغازى.

رسول الله هو الذى وقع صلح الحديبية والذى نص على أن كل من يسلم من أهل قريش يجب أن يبقى فى قريش ولا يقبله النبى إن هاجر إلى المدينة المنورة، وأن كل من يكفر من أهل المدينة يجب أن يسمح له النبى بالعودة إلى قريش بلا أذى، ولو أن اتفاقا بهذا المحتوى وقعه زعيم سياسى مسلم اليوم لخرج عليه قومه بالثورة (دفاعا عن كرامة الدين) ولاغتاله حرسه الخاص أو حفنة من جنوده.

رسول الله هو الذى قال لأهل يثرب أنتم أعلم بأمور دنياكم، ولم يقحم الدين فى الزراعة والتجارة واقتصاديات الدولة وفنون الحكم والإدارة والحرب، وهو الذى اعتمد العقل والعمل فى إنشاء دولته الحديثة، ولم يخرج صحابته عن نهجه العقلانى العلمى فى الإدارة، فكان الإسلام أصلا واحدا، وكانت اجتهادات الصحابة بالغة التنوع فى أشكال الخلافة، وفى طبيعة الأعداء والأصدقاء، وفى صور الإدارة المالية والسياسية بين أقطار الأمة الإسلامية.

من يجرؤ بعد ذلك أن يجعل للدولة الإسلامية شكلا واحدا ثابتا جامدا على هواه هو وعلى صورته هو، ووفق قراءته هو وحده دون سائر المسلمين؟ ومن يجرؤ بعد ذلك أن يقول إن هذا القرار السياسى من الإسلام، وهذا القرار السياسى ليس من الإسلام؟ ومن يجرؤ بعد ذلك أن يتصور أن دين الله وسنة نبيه أرادا لنا نهجا جامدا جافا بلا إدراك للمصالح المرسلة للمسلمين، وبلا فهم لما أراده الله لنا من رقى بالعقل والعلم؟

الإسلام نفسه هو الدين العقلى الليبرالى المدنى بشهادة التاريخ، والصحابة أنفسهم بتنوعهم فى أشكال الحكم والإدارة برهنوا على أن الوحى لم يأمرنا بأن نتبع نهجا دون غيره، لكنه أراد لكل ما نسلكه من طرائق شتى، وسبل متعددة فى بناء الدولة وتنظيمها وتحديثها أن نتحرى العدل وأن نزن الأمور بالقسطاس المستقيم.

هل هناك ليبرالية أوسع من ذلك؟
هل هناك تفسير للعلمانية أكثر وضوحا من هذا الذى جرى فى التاريخ الإسلامى من تنوع فى أشكال الحكم، ومن إبداع عقلى فى إدارة البلدان الإسلامية فى العهود المختلفة للصحابة والتابعين؟

وكلما غاب العقل وتاجر سياسيون باسم الله وباسم العدل.. فاعلم أنه لا إسلام ولا دولة إسلامية!!

وأينما كان العقل والعدل معا فأنت فى رحاب دولة الإسلام.

هوامش
صلح الحديبية... هو صلح عقد فى شهر شوال من العام السادس للهجرة (مارس 628 م) بين المسلمين وبين قريش بمقتضاه عقدت هدنة بين الطرفين مدتها عشر سنوات. وقد كان رسول الله قد أعلن أنه يريد المسير إلى مكة لأداء العمرة، ووصلت ركائب المسلمين إلى قرية الحديبيّة القريبة من مكة ولما علمت قريش بقدوم الرسول وصحبه رفضت السماح لهم بدخول مكة وأرسل رسول الله عثمان بن عفان ليفاوض قريشا، وتأخرت عودته وأشيع أنه قتل. وهنا عزم رسول الله على دخول مكة عنوة، ولكن عاد عثمان إلى الحديبيّة وكان قد تأخر فى مفاوضة قريش وفى إزالة مخاوفها، وكان المطلب الأساسى لقريش أن يعود المسلمون ذلك العام على أن يدخلوا مكة معتمرين فى العام المقبل، لكى لا يقول العرب إن قريشا استذلت للمسلمين فيصيبها من ذلك معرّة. ووافق رسول الإسلام على مطلب قريش، وعلى أساسه عقد اتفاق بينه وبين قريش عرف بصلح الحديبيّة









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة