الشعب هو الغائب الحاضر فى جميع المناقشات والمعارك التى تدور فى الأوساط الثقافية والسياسية، وتتبارى الصحف والقنوات الفضائية فى تأجيجها وإلقاء الزيت عليها لتسخن وتشتعل..والجميع يلوم الشعب ويتهمه بالقصور والتقصير ويلعنه وينعته بأحط الصفات وأقسى الألفاظ.
فالسياسيون الحكوميون يرون الشعب كسولا ومتواكلا يعتمد دائما فى أموره على الدولة، ويتكاثر بمعدلات تفوق معدلات التنمية، وتظهر الحكومات المتعاقبة على أنها عاجزة وفاشلة، و يطالبونه فى جرأة وصلافة يحسدون عليها بالاعتماد على نفسه وقدراته، وأن يحل بوجهه ومشاكله وهمومه عن ماما "الحكومة" المشغولة بأمور أخرى أهم وأخطر، رغم أن هذه الحكومة نفسها التى تشكو الآن من "رذالة" الشعب، هى التى تشل قدراته وتعطل طاقاته وتضع فى وجهه العراقيل وتسود عيشته بقوانين الجباية والفساد والرشاوى والضرائب، وهى التى تضطره للتحايل على الفساد بالفساد، هروبا من إرث البيروقراطية المتخلف ومئات القوانين التى تخنق الناس وتجعلهم أسرى الحكومة وعبيد أوامرها ونواهيها وسلطتها الباطشة.
والمثقفون يلومون الشعب لأنه خاضع وخانع ..لا يقرأ ولا يفهم أو يستوعب سفسطتهم الفاسدة ومصطلحاتهم العقيمة وقضاياهم البعيدة كل البعد عن هموم الناس الحقيقية ومتطلبات حياتهم، وأسئلتهم الوجودية التى يطرحونها على أنفسهم ويتجادلون حولها، ثم لا يصلون إلى شىء ، وكأنهم يدورون فى متاهات من الألفاظ والمعانى المبهمة والحديث عن الأصالة والمعاصرة والكونية والعولمة وجدلية الشرق والغرب والتقدم والتخلف، دون أن يقدموا رؤية واضحة للخروج من أزمة المجتمع، وكثيرون منهم يتحالفون مع السلطة ويرتزقون منها ويشاركونها التعالى على الشعب والتنكيل به، بحجة أنه غائب أو مغيب أو أنه شعب جاهل لا يثور ولا يقدر عبقريتهم المزعومة فى التحليل والتفسير واستنباط الحلول المستحيلة من بين تلال الكتب التراثية والمعاصرة ومئات النظريات من الشرق والغرب، والتى لا تصلح بالطبع لنا لأنها ببساطة دخيلة علينا أو مستوحاة من تجارب شعوب ومجتمعات أخرى لا علاقة لها بظروفنا وتاريخنا ومشكلاتنا الحقيقية.
والمتدينون ودعاة الدين وحملة لواء الإسلام ورافعو لافتاته على اختلاف توجهاتهم وتياراتهم المتطرف منها والمعتدل، يلومون الشعب هم أيضا لأنه نسى الله وغرق فى ملذات الحياة "غير الموجودة أصلا" ، وانشغل بعبادة أصنام كرة القدم ونجوم الأفلام والمسلسلات والأغانى عن الزهد والتنسك والتمسك بالإسلام الذى يختلفون جميعا فى تفسيره وينصبون من أنفسهم أولياء وأوصياء عليه وعلينا، ويستغلون خوف المصريين الفطرى والتاريخى من الحساب والنار وجهنم الحمراء التى يبشروننا جميعا بأننا سنكون من زبائنها إن نحن لم نستمع إليهم ونسمع كلامهم، ناسين أو متناسين أن الغرب المنحل والشرق الكافر سبقنا إلى التقدم، رغم أنه نسى الله قبلنا واختار الدنيا عامدا متعمدا، ومع ذلك فقد حقق لشعوبه الرخاء والرفاهية والحياة الكريمة التى فشلنا نحن فى تحقيقها.
والحقيقة أن أحدا من السياسيين أو المثقفين أو رجال الدين الذين يتحدثون دائما عن الشعب وباسم الشعب، لم يحاول أن يقول لنا من هو الشعب الذى يحدثنا عنه أو يتحدث موجها خطابه إليه .. وهل هو شعب الفلاحين والعمال، أم شعب الموظفين المطحونين؟ هل هو شعب العشوائيات والبشر المنسيين والمهمشين، أم شعب قصور المنصورية وشاليهات الساحل الشمالى؟ وهل ما ينطبق على شعب المعادى ومصر الجديدة ومنتجع البيفرلى هيلز يمكن أن ينطبق أيضا على شعب منشية ناصر وعزبة أبو حشيش؟ وهل العيب حقا فى الشعب الذى احتار الجميع فى تعريفه وتصنيفه ..أم العيب فى لغة الخطاب التى توجه إليه، والغرض من هذا الخطاب ونوايا المتحدث والمغزى من الحديث؟
فالشعب الذى سبق أن دقت على رأسه ملايين الطبول، أصبح من الخبرة والذكاء، بحيث يستطيع أن يفرز بسرعة قد لا يتصورها المتحذلقون، من يريد استخدامه كورقة للمزايدة السياسية، ومن يحبه بالفعل ويريد له الخير والتقدم..بين المناضل الحقيقى ..ومناضل الخمس نجوم بالدولار والاسترلينى فى الفضائيات.
وهو -أى الشعب- حين يحب شخصا أو يلتف حول رمز من الرموز الحقيقة التى يضن بها علينا هذا الزمان، فهو يحبه بجد وببساطة وتلقائية ولا يتخلى أبدا عن هذا الحب مهما بلغت حملات التشويه والتنكيل من المأجورين وخدام الأسياد القدامى والجدد.
وقبل أن نلقى كل بلاوينا وعجزنا وهواننا على شماعة الشعب الذى لا يقرأ ولا يهتم ولا يريد أن يسمع ويستوعب..يجب أن نعرف أولا ..لماذا انصرف الشعب عنا جميعا، وأعطى ظهره لنا .. ولماذا فقد الثقة فى كل ما يقرأه ويراه على الشاشات الرسمية والخاصة..والإجابة هى لأنها ولأننا بصراحة شديدة مشغولون بأشياء لا تمسه ولا تعنيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة