الدولة.. ذلك المصطلح الحديث الذى شغل العديد من المفكرين والفلاسفة منذ مئات السنين، وأصبح محور اهتمامهم من منظور نشأتها والجدال حول أسبقيتها على المجتمع والأمة، وبدأ الفلاسفة "تحديداً" وضع ملامحها وأطر تنظيمها وعلاقتها بالشعوب والمجتمع، وحاول المهتمون إيجاد تفسير لظهورها، كان أبرزها نظرية "العقد الاجتماعى" للفيلسوف والمفكر جان جاك روسو "1712-1778"، والتى جاءت استكمالاً لإسهامات المفكر الإنجليزى توماس هوبز "1588-1679".
تلك الإسهامات النظرية، تم تغليفها بالأيديولوجيات المختلفة، والتى عبرت عنها إسهامات المفكرين فى العصر الحديث، مثل هيجل وماكس فيبر وكارل ماركس، والإمام محمد عبده، ولكن أخذت منحنى آخر، يحاول وضع الأسس المثالية للدولة التى تقيم العدل والإنصاف بين أفرادها.
ثم تطورت تلك الفكرة السحرية، إذا جاز التعبير، مع سقوط الاتحاد السوفيتى فى بداية تسعينيات القرن الماضى، وأخذت تتبلور مع موجة الديمقراطية الثالثة، بحسب صامويل هنتجنتون، وإعلاء قيم الإصلاح والمواطنة، وأصبحت الدولة المثالية، هى ما تعرف بـ"الدولة المدنية أو الحديثة"، التى أخذت مرادفات أخرى منها ما يعرف بـ "دولة القانون"، و"دولة المؤسسات". وأصبح ذلك المصطلح الملهم، هدفاً للصراع بين الآيديولوجيات المختلفة فى مصر، لاسيما العلمانية منها والإسلامية، وأصبح التساؤل الآن: حول ما هى الدولة المدنية، وما هو الإطار الفكرى المناسب الذى يمكن أن يحفظ لمصر هويتها المميزة "التى فرضها واقعها الجغرافى والدينى والتاريخى" ويجعلها دولة مدنية؟
المثير فى الأمر، أن من حاول الإجابة على هذه الأسئلة، لم يجد صعوبة أو خجلاً فى تغليف ذلك المصطلح "الغربى" بأفكاره وآيديولوجياته، وهو ما دفعنى للحديث عن نشأة الدولة الحديثة، وتطورها وركائزها، كبداية للحديث عن أزمة الدولة فى مصر.
بداية.. ظهرت الدولة بملامحها الحالية، فى القرن الخامس عشر، وذلك بعد توقيع صلح ويستفاليا عام 1648، لتضع نهاية للحروب الدينية التى دارت بين الإقطاعيات والممالك الأوروبية لمدة 100 عام تقريباً، وكان أول إرهاصات هذه المعاهدة ظهور الدولة القومية فى إيطاليا وألمانيا، التى استندت على وحدة العرق واللغة والمذهب الدينى.
والمتتبع لتاريخ نشأة وتطور الدولة، واعتمادها فى البداية على فكرة "القومية"، يتضح له أنها هدفت إلى إنهاء سيطرة رجال الدين والمؤسسات الدينية على الحكم، والتى يشهد تاريخ أوروبا بعض النماذج "وليس جميعها" حالة الفساد والذى طغى خلال هذه السيطرة.
وهنا.. يمكن أن يرد أصحاب الفكر "المغلف بإطار دينى"، بأن الدولة الإسلامية لم تكن ذات مساوئ الدولة الدينية فى أوروبا. والرد ببساطة، أنه لا يوجد فى الإسلام ما يعرف باسم "الدولة الإسلامية"، ولكن وضع الرسول (صـ) أسس الحكم فى الدنيا، والتى تمثلت فى مبدأ "الشورى"، الذى يعتبر موازياً للمصطلح الحديث المعروف بالديمقراطية، وهو ما يدفعنا للقول بأن دولة الخلافة "الأموية والعباسية"، ليست هى الدولة التى أقرها النبى (صـ) لأنها تعتمد على التوريث وليس الشورى، وبالتالى فإن خروجها عن النص الشرعى، وسنة النبى محمد صلى الله عليه وسلم، أمر وارد جداً، لأن الولى فيها يملك ويحكم، وينطلق حكمه من مبدأ التصرف فيما يملك، وبالتالى لا يوجد من يحاسبه، وحتى يجد شرعية لقراراته وسياساته، لا مانع أن يستخدم الدين للتبرير.
فى المقابل.. سوف يتفق معى العلمانيون فى هذه النقطة، ويؤكدون على ضرورة فصل الدين عن الدولة، والالتزام بإعمال العقل فى كل شىء، وضرورة وضع الدين فى دور العبادة فقط، وهو أمر مردود عليه أيضاً. إن الدين فى الشعوب عامة، وفى مصر على وجه الخصوص، يجب عدم إغفاله باعتباره أحد أهم المكونات الثقافية والاجتماعية للشعوب، وبالتالى يجب الارتكاز على قيم الدين فى صياغة القوانين المدنية، بمعنى لا يمكن أن تقر عقوبة الإعدام فى القتل، ويخرج علينا العلمانيون بأن حياة الإنسان هى من أبرز حقوقه، ويجب الحفاظ عليها ويجب أن يكون عقابه بعيداً عن المساس بحياته، وهو ما له من مردود اجتماعى يعبر عنه انتشار معدلات الجريمة والقتل فى دولة مدنية حديثة، مثل أمريكا.
إذن .. ما هو المخرج من هذه المعضلة؟.. إن حياة البشر ترتكز على التوافق، أى إيجاد صيغة وسطية بين مطالبه وحدود ما هو متوفر فى مجتمعه، حتى يستطيع أن يقوم بترشيد رغباته، وبالتالى ينتقل من مرحلة الهمجية إلى المدنية، كما أن العدل المطلق أو المساواة المطلقة، أو الاستناد على إطار آيديولوجى مغلق يقود إلى مزيد من التطرف، ولنا فى الاتحاد السوفيتى والدول الملكية السلفية نموذج، فالتشدد فى الجانبين "الدنيوى والدينى" كان السمة الرئيسية، والانهيار يعتبر النتيجة المنطقية.
أما الوسطية، فيمكن تلمسها فى نموذج ماليزيا، الدولة التى اعتمدت المنهج الليبرالى الاقتصادى، وأخذت ما يتوافق مع تقاليدها من الليبرالية الاجتماعية، واستطاعت أن تحقق معدلات نمو خيالية، وجعلتها قوة اقتصادية لا يستهان بها، بالرغم من تعددها العرقى والدينى.
ما العمل؟.. الحل يكمن فى اعتماد أسس الدولة المدنية أو الحديثة، والتى ترتكز فى الأساس على فكرة المواطنة، وهى فى الأساس ثقافة تعتمد على قبول الآخر، وحريته فى العقيدة والحياة، وضرورات العيش المشترك، وتتبلور فى الواقع من خلال الممارسة عبر ركنيها المساواة والمشاركة.
السؤال الآن.. هل مصر دولة مدنية حديثة؟!.. وإذا لم تكن .. كيف يمكن الوصول بمصر إلى هذه المرحلة؟!.. وفى هذا لنا حديث آخر..
كلمة أخيرة..
* الديمقراطية.. تهدف إلى ترشيد الحرية.. حتى لا نعود إلى مرحلة الهمجية.
* إن الحديث عن التعدد العرقى فى مصر..أمر خيالى مبهم بعيد عن الواقع.. إن فكرة النقاء العرقى فكرة نازية غير مقبولة، وليست موجودة فى مصر.
* الإسلام ليس به ما يسمى برجال الدين.. قال الله عز وجل فى كتابه الكريم "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" صدق الله العظيم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة