على سيد على

خليك فى حالك يا أستاذ

الإثنين، 27 يوليو 2009 05:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يصعد مثل أى راكب، أشار إلى الميكروباص الذى ركبته من ميدان رمسيس متجها إلى عين شمس فى الثانية بعد منتصف الليل. فى ميدان الألف مسكن، دفع به شخص داخل الميكروباص أثناء نزول أحد الركاب، دفعه وهو يصيح فيه: "خلاص اركب.. يا عم اركب.. يا ابن ال... اركب". ثم وجه حديثه إلى السائق قائلا: "يلا يا أسطى اتكل على الله".

بعد أن استقر فى الكرسى قبل الأخير، تعالت أصوات أنفاسه لتعلن أنه خارج لتوه من "خناقة جامدة". وأدركت أنا ومن معى فى الكرسى الأخير أنه نال "علقة محترمة"، بعد أن رأينا الدماء تنسال من مؤخرة رأسه بغزارة لتلطخ ملابسه من الخلف. عندها قال ثلاثتنا فى وقت واحد: "الحق نفسك على أقرب صيدلية واربط راسك"، التفت بقية الركاب محدقين فيه، وهو يتمايل يمينا ويسارا غير مستقر فى كرسيه، يتباعد عنه مجاوروه خوفا من أن تطولهم دماؤه. كان فى تمايله إلى الخلف يقترب من صدرى، فاحتميت بشنطتى الجلدية "معلش الواحد ما يضمنش".

كلما وضع منديلا، من العبوة التى أعطاها له أحد الركاب، على رأسه، تشبع بالدماء عن آخره، ليضع الثانى فالثالث، والدماء لا تزال تسيل، ويبدأ هو فى البكاء، مفصحًا أثناء نهنهته ببعض تفاصيل المشاجرة وأسبابها، فنفهم، من خلال جمله المتقطعة المتلعثمة، أن أحد الباعة الجائلين بميدان الألف مسكن اتهمه بالسرقة، واشتبك معه بمعاونة زملائه من الباعة، وأنهم "اتكاتروا عليه بس هيرجعلهم يعلم عليهم".

ملامحه وطريقة حديثه لم تشجع أى راكب للرد عليه، أو حتى التعاطف معه، حتى إن أحداً لم يطلب من السائق أن يتوقف عند أقرب صيدلية لإيقاف نزفه المتدفق. وحينما لم يجد أى تجاوب لثرثرته الغائمة، أسند رأسه براحتيه وسكت. وعندما أراد من يجلس بجواره النزول قبل محطة الجراج فى شارع موازٍ لشارع جسر السويس، لم يفسح له ذو "الرأس المبطوح"، بل بادر بالنزول من أمامه حتى لا يطوله شىء من دمائه.

بعد نزول الراكب، لم يصعد ذو "الرأس المبطوح"، وفى الوقت الذى تحرك فيه السائق، رأيته يترنح ويسقط أرضًا بحركة لم أرها إلا فى الأفلام السينمائية. ولأنى أجلس فى الكرسى الأخير، انتظرت من أحد الركاب فى المقدمة أن ينبه السائق، ولكنّ أحدًا لم ينطق بكلمة، رغم تأكدى من أن المشهد الذى رأيته، شاركنى فى رؤيته كل الركاب.

صرخت فى السائق: "استنى يا أسطى" ولكنه تجاهلنى واستمر فى طريقه. توجهت بحديثى للركاب: "يا جماعة الواد وقع.. هنسيبه كده". رد على أحدهم: "آه نسيبه.. هيحصل له إيه يعنى.. هيموت.. يبقى البلد نضفت من واحد وعقبال كل اللى زيه". كان ردى على فلسفته سيترتب عليه زيادة المسافة بيننا وبين الملقى على الأرض.

"زعقت" فى السائق بلهجة آمرة أن يقف، فقال راكب آخر بلهجة هادئة: "امشى يا أسطى.. كمل طريقك". ثم استدار لى قائلا: "يا أستاذ شكلك كده طيب.. وبعدين أنت يمكن عشان قاعد ورا مشمتش الريحة الهباب اللى طالعة من بقه". ثم تبرع ثالث ليشرح لى – أنا المغفل – السبب الذى دفعهم جميعا إلى تجاهل ذلك "المبطوح" قائلا: "تقدر تقولى يا أستاذ ليه المكان ده بالذات اللى مفيهوش صريخ ابن يومين اللى يقع فيه.. دى تمثيلية عاملها عشان حد زى حالاتك كده ينزله عشان يساعده يروح هو قايم مثبته وواخد كل اللى معاه.. أنت تحمد ربنا إن إحنا فاهمين الحركات دى ومسيبناكش تنزل".

كنت مضطراً لأن أقتنع بما تبرع به الإخوة الركاب لإفهامى إياه، لأن عدم اقتناعى معناه أن ذلك الشخص ربما يموت لو استمر جرح رأسه ينزف، دون أن ينقذه أحد فى الوقت المناسب. قلت فى نفسى: "حتى لو كان خامورجى وشمام وحرامى وابن ستين فى سبعين.. معقولة اللى بيحصل ده.. نسيبه يموت ببساطة كده".

ظل مشهد سقوطه على الأرض يطاردنى، وأنا أردد فى ذهنى: "أرجعله ولا مرجعلوش.. أرجعله ولا مرجعلوش".. حتى انتبهت لصوت السائق يقول لى: "الآخر هنا يا أستاذ".. عند نزولى تبرع هو الآخر بنصيحتى قائلا: "خليك فى حالك يا أستاذ".

قبل أن أستقل التوك توك "المواصلة الأخيرة" فى طريق عودتى للمنزل، هاتفت زوجتى قائلاً لها: "حضرى لى الأكل.. أنا طالع".






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة