الأسبوع الماضى انتهت مؤسسة الهوية للدراسات والأبحاث والتدريب فى العراق من دراسة استطلاعية ميدانية شاملة داخل العراق استغرقت أربعة أشهر، وأظهرت أن عدد الأطفال الأيتام بالعراق بلغ أربعة ملايين و788 ألفاً و473 طفلاً، 74% منهم تيتموا منذ بدء العدوان الأمريكى على العراق فى عام 2003.
وأظهرت الدراسة أيضاً أن 654.200 طفل تقريباً ليس لهم مأوى سوى الشوارع، يقضون نهارهم بحثًا عن الطعام والشراب، ثم يفترشون الأرض ملتحفين السماء لقضاء ليلهم، فى عدة أماكن لعلهم يصبحون أحياء.
الدراسة وصلتنى عبر البريد الإلكترونى من الدكتور زيد فريح جاسم الدليمى أستاذ الطب النفسى فى العراق، وهو يقول إن نتائج الدراسة المهولة والمخيفة تحتاج إلى وقفة جادة ونظرة متفحصة، داعيا كل الباحثين العرب إلى البحث فى تلك الظاهرة وكيفية التصدى لها ودراسة المتغيرات من خلال قسوة الحالة، عندما يتم فقدان الأبوين فى الصغر، وما يترتب عليه فى المراحل المبكرة من الحياة.
عدد سكان العراق يبلغ حوالى 24 مليوناً، منهم نحو خمسة ملايين طفل يتيم، أى أكثر من 20% تقريبا من عدد المواطنين العراقيين فى مختلف الأعمار، وهو رقم غير مسبوق فى أى مكان فى العالم، وهو يعنى أن العراق مقبل على كارثة إنسانية بالغة السوء والقسوة، لأنها تغتال براءة جيل كامل، وتؤدى، بلا ما لا يدع مجالا للشك، إلى إصابتهم بأمراض نفسية ما لم يتم التعامل الجدى مع تلك الظاهرة، رغم أن تعويض غياب الأب والأم أمر غير ممكن على الإطلاق.
العراق بلد عربى كبير ومهم، لكننا تركناه فريسة لحرب شرسة، لم تستهدف فقط القضاء على نظامه السياسى، وإنما القضاء على هذا البلد الغنى بالثروات الطبيعية إلى الأبد، عبر إدخاله فى دوامة من العنف لا تنتهى أبداً.
ولم تعد مشاكل العراق تقف عند حدود أنه بلد محتل، وإنما امتدت لتشمل صراعا طائفيا محتدما بين السنة والشيعة من جهة، والمسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، وصراع عرقى آخر بين العرب والأكراد، وصراع آخر بين التطرف والاعتدال، بعد أن تحول هذا البلد إلى مقر لتنظيم القاعدة، وهى صراعات لا تبدو نهايتها فى الأفق لدرجة أن الأمريكيين الذين صنعوا كل هذا العنف لم يعودوا قادرين على التعامل معه، فقرروا سحب قواتهم خارج المدن للنجاة بجنودهم من أتون العنف.
العراق ليس نيكاراجو أو بنما وإنما بلد عربى شقيق، وهو ليس إمارة أودويلة صغيرة لكنه صاحب حضارة عريقة وعريضة، وأثرى الحضارة العربية فى مختلف الفروع والعلوم، لكنه يجتاز الآن مرحلة فى غاية الصعوبة تحتاج من كل عربى مؤمن بعروبته وغيور على دينه، سواء كان مسلماً أو مسيحياً، أن ينهض للدفاع عن العراق، والضغط على الحكومات العربية للتدخل عبر الجامعة العربية الكسيحة لإعادة الاستقرار إلى العراق، وإعادة البسمة إلى وجوه أطفاله الذين تعرضوا لليتم بالملايين.
وما لم يتدخل العالم العربى شعوباً وحكاماً ومنظمات المجتمع المدنى، فإن حالة الاقتتال الداخلى فى العراق ستظل إلى أبد الآبدين، وسيزداد طابور الأطفال الأيتام والقتل على الهوية لنبقى محاصرين بين المشكلة الفلسطينية والحرب العراقية الداخلية التى أنهت على الخضر واليابس، وانتقلت لتحصد أرواح البشر.