لا أعرف لماذا ألح على خاطرى هذا السؤال عندما كنت فى زيارة لزميل الدراسة الذى يعمل طبيبا بما كان يسمى المستشفى التكاملى فى قريتنا التى نشأت بها، وهو يحكى لى بحسرة كيف قررت وزارة الصحة تحويله إلى مركز لطب الأسرة فتركه الأطباء، وتم نقل الكثير من المعدات الطبية التى كانت به، لتترك قرية من أكبر قرى الشرقية بلا خدمات صحية. وتذكرنا سويا كيف كان المستشفى عندما كنا أطفالا فى الستينيات، نتردد عليه للكشف الدورى ونحن تلاميذ فى الابتدائى، وكم كان رائعا ليس فقط لنظافة المكان ولا رقة الممرضات ولا إنسانية الطبيب وهو يكشف علينا، بل لأن المستشفى مكان تحب أن تذهب إليه.
أقول ذلك وأنا أقارن ما فى ذاكرتى بمستشفيات الصحة والجامعة الآن، وهى صورة مؤلمة لكل من يسوقه حظه ومرضه لأن يكون أحد نزلائها.. بعدها رحت أبحث عن مدرستى الابتدائية فلم أجدها! لأنها ببساطة استبدلت بخمس مدارس ابتدائى وإعدادى، حتى الفصول التى كانت تسع خمس وعشرين تلميذا يكدس فيها الآن سبعون تلميذاً، أما ما تبقى مما كان يسمى بالوحدة المجمعة التى أنشأها عبد الناصر فى أواخر الخمسينيات فى معظم قرى مصر، والتى كانت تضم إلى جانب المدرسة والمستشفى قاعة السينما!! نعم قاعة سينما فى الخمسينيات فى أعماق الريف المصرى وأبراج الحمام، ومكتب البريد ووحدة الشئون الاجتماعية ومصنع تجميع الألبان، حتى حظيرة الأرانب والمنحل، كل ذلك اختفى تماماً، حتى الأشجار وتكاعيب العنب التى كانت تصل بين كل مبنى من هذه المبانى، والتى لم أر مثلها فى حياتى مرة ثانية، كل هذا اختفى وتحول المكان إلى مبانى صخرية خالية من أى لمسة جمال.. تذكرت كل ذلك.
ولما كانت المصادفة أننا فى شهر يوليو، شهر الثورة التى نحتفل بها كل عام، رحت أعيد السؤال، وقبل أن أحصل على الإجابة لابد وأن أقرر أننى لم انتم يوما إلى الاتحاد الاشتراكى ولا للتنظيم الطليعى ولا أى تنظيم ناصرى، لأننى ببساطة من مواليد ما بعد الثورة، وكل ما تبقى لدى لعبد الناصر موقفان، الأول وأنا فى الصف السادس الابتدائى عندما ذهبت للمدرسة ورأيت كل الناس (المدرسين والناظر والفراشين) كله يبكى، وعرفت أن عبد الناصر مات، وعطلت الدراسة ورجعت إلى البيت فوجدت أمى وأبى يبكيان، وبعاطفة الطفولة بكيت مثلهم، رغم أننى ما كنت أدرك معنى البكاء ومرت الأيام، وعندما سافرت لدراسة الدكتوراه وكان معى لفيف من الأخوة العرب، وكان ذلك فى أواخر الثمانينيات وسمعت منهم كيف أنهم يحتفظون بصور ناصر فى بيوتهم وأنهم يحبونه أكثر من كثير من المصريين.
أما الإجابة على السؤال فجاءت من الناس البسطاء الذين يترددون على المستشفى أو ما كان مستشفى من أجل روشتة بلا علاج، وهم يقولون: "زمان أيام عبد الناصر كل حاجة كانت موجودة كنا فلاحين، وكان عندنا زراعة وقطن وفلوس، الآن لا فى قطن ولا كيماوى نقدر على تمنه حتى الأرز اللى بنعيش عليه بيحاربونا فى زراعته لكن الأهم أن زمان كانوا ولادنا بيتعلموا ببلاش، الآن الدروس الخصوصية هديت حيلنا ومستحملينها.. كله إلا المرض دا بجد اللى منقدرش عليه ولسه بتسألنا بنحب عبد الناصر؟!!".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة