بعد عودته من منفاه لسنوات فى أوروبا، سئل الإمام محمد عبده عما وجده هناك، فأجاب بعبارته المشهورة: لقد وجدت هناك إسلاما بلا مسلمين، وهى عبارة تدل فى جانبها الآخر على مدى التفريط الذى وقع فيه المسلمون فى البلاد الإسلامية لأن مقتضى العبارة يعنى أن البلاد المسماة إسلامية بها مسلمون وليس بها إسلام، فماذا كان يقصد الإمام بمفهومه للإسلام؟
لنتخيل معا الإمام محمد عبده يتوجه إلى مصلحة حكومية فيجد الموظف غائبا عن مكتبه ساعة أو أكثر وعندما يعود من غيابه يزايد على الناس بأنه كان يصلى فى جماعة، ويكاد يتهم منتقديه بالكفر إذا لاموه على ترك مصالح الناس، هل سيعتبر الإمام ذلك من الإسلام فى شىء؟
لو دخل الإمام محاضرة فى إحدى الكليات العلمية فوجد الدكتور الملتحى ينصح طلبة محاضرة الديناميكا قائلاً: هذا العلم للامتحان فقط، تذاكرونه حتى تنجحوا أما العلم الحقيقى فهو العلم الشرعى فقط، هل يجد الإمام قول هذا الدكتور من الإسلام فى شىء؟
ماذا يقول الإمام فى قطاع كبير من العمال المهرة وأصحاب الحرف تركوا حرفهم وصناعاتهم واحترفوا جميعا بيع اللبن وعسل النحل أو بيع كتب الأذكار والسواك والملابس الباكستانية أمام المساجد والجمعيات الشرعية؟
إن الإسلام من وجهة نظر الإمام محمد عبده هو الدافع للتقدم والاجتهاد والإبداع فى كل المجالات، وهو طلب العلم والجد فيه حتى ينتقل الإنسان والمجتمع من طور التخلف والفقر إلى التطور والثراء، وهو الدقة والإخلاص فى أداء الأعمال، وهو الانضباط فى العيش بعيداً عن السفه والبخل، وهو العقول الرشيدة التى تخطط وتفكر للصالح العام اليوم وغداً وبعد غد.
ومن هنا كانت عبارته الشهيرة التى قصد بها لوم المسلمين أكثر من مدح الأوروبيين، وهو ما يؤكد مجدداً حاجتنا إلى اعتماد التراث الفكرى للإمام فى وقتنا الراهن الذى شاع فيه الهروب إلى التدين المظهرى وترك ما دعا إليه الدين من طلب العلم والإتقان والتدبر فى سنن الله فى الكون أى دراسة كل ما حولنا من ظواهر الطبيعة والانتفاع بها.
لقد صارع الإمام طويلاً حتى يجعل من النموذج الأوروبى فى جانبه العلمى والتكنولوجى هو هدف المواطن المصرى، لكن يبدو أن المواطن أخذ ينحرف شيئا فشيئا باتجاه نموذج طالبان، حتى لو لم يظهر ذلك واضحاً جليا، ولكن الجوهر هو هو، ولو فتشنا تحت جلود الناس لوجدنا أغلبهم طالبانيين يلبسون الكاجوال ولا يظهرون الكلاشينكوف الذى يحملونه، الأمر الذى يحتم مواجهة اعتماد المجتمع لنموذج طالبان تحت الجلد، بنموذج الإسلام العملى الذى وجده وأشار إليه الإمام فى أوروبا.