فى عامى الدراسى الثانى بمدرسة الوعى القومى الابتدائية بالمحلة الكبرى، أرسلت أول رسالة فى حياتى مكونة من أربع كلمات فقط للرئيس جمال عبد الناصر "بابا جمال أريد صورتك"، بعدها بأيام قليلة فوجئت وهم ينادون على اسمى فى طابور الصباح لتسلم رسالة من الرئيس جمال عبد الناصر، بها صورته.
كان عبد الناصر قد زار المحلة قبلها بعامين برفقة الرئيس اليمنى عبد الله السلال، حملتنى أمى على كتفها لمشاهدة الرئيس وهو يمر فى شارع شكرى القوتلى، وما زالت أتذكر عبد الناصر وهو يلوح بيديه للجماهير المحتشدة لرؤيته، وظننت وأنا فى هذه السن المبكرة أن عبد الناصر يلوح لى شخصيا.
وما زالت حتى الآن أحتفظ لجمال عبد الناصر بمكانة كبيرة فى قلبى، رغم أننى لست ناصرياً، وربما تشكلت هذه المكانة بسبب رسالته لى، ورؤيتى المبكرة للرئيس، لكن فى كل الأحوال مثلت ثورة يوليو، التى تحل ذكراها السابعة والخمسين هذه الأيام، حالة مهمة فى التاريخ المصرى الحديث.
لم تكن ثورة يوليو بأى حال من الأحوال وليدة فكر عبد الناصر ورفاقه وحدهم، وإنما كانت تعبيراً عن أحلام ومطالب كل القوى الوطنية فى مصر، وحين صاغت الثورة مبادئها الستة الشهيرة، التف حولها الجميع لأنها كانت هى مطالب كل المصريين، وهى: "القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، إقامة جيش وطنى، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة عدالة اجتماعية".
هذه هى المبادئ الستة التى حلم بها كل المصريين، وحاولت ثورة يوليو تطبيقها فنجحت فى بعضها وفشلت فى البعض الآخر، ولعل أهم ما أخفقت فيه هو إقامة حياة ديمقراطية سليمة، لكن فى كل الأحوال من الصعب الحكم على ديمقراطية الستينيات بمعايير اليوم، خاصة فى ظل أنظمة حكم كانت تعتمد على الاشتراكية وتعلى العدالة الاجتماعية على ما سواها من أهداف أخرى، وعلى رأسها الديمقراطية، وهو ما مثل نقطة ضعف الأنظمة الثورية فى الفترة من الخمسينيات حتى الثمانينيات.
وفى كل الأحوال عاشت مصر فى عهد عبد الناصر تجربة غير مسبوقة فى التاريخ المصرى، وتميزت باستقلالية القرار الوطنى، ونهضة صناعية شاملة، وعدالة اجتماعية إلى حد كبير، لكن هزيمة يونيو 1967 كسرت هذا المشروع، ومست مصداقيته كثيرا، وأعتقد أنها السبب الرئيسى فى التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى شهدتها مصر بعد ذلك ولا تزال تعيش على وقعها حتى الآن.
ورغم إيمانى الكبير بالليبرالية السياسية والاقتصادية بشرط ربطها بعدل اجتماعى واضح ومسئول تنهض به الحكومة ورأس المال على السواء، فإن مبادئ ثورة يوليو لا تزال صالحة لإعادة بناء الوطن، فما أحوجنا الآن للقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، فى ظل الهجوم الكاسح الذى يقوم به رجال العمال على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وما أحوجنا لإقامة عدالة اجتماعية، بعد أن أصبحت أغلبية المصريين من الفقراء والمعدمين، وما أحوجنا للقضاء على كل أشكال الإقطاع.
وبعد كل هذه السنوات لا نزال فى حاجة ماسة لإقامة حياة ديمقراطية سليمة، بدلا من الديمقراطية الهشة، والحياة الحزبية الضعيفة، والبرلمان الصورى، وتغول السلطة التنفيذية على باقى سلطات الدولة الأخرى.
رحم الله جمال عبد الناصر، لكننا فى حاجة إلى ثورة جديدة تعيد إحياء مبادئ يوليو 1952، وليس انقلاباً عسكرياً بطبيعة الحال، وإنما تطور مدنى ديمقراطى تنهض به القوى السياسية المختلفة فى هذا الوطن، والشعب المكتفى بالمشاهدة من بعيد!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة