مدحت أنور نافع يكتب: أمريكا التى لا نعرفها ولا تعرفنا

الخميس، 02 يوليو 2009 10:54 ص
مدحت أنور نافع يكتب: أمريكا التى لا نعرفها ولا تعرفنا

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت متأكدا أن زيارة الولايات المتحدة بعيد دخول الرئيس أوباما البيت الأبيض لهو حلم يشاركنى فيه الكثير من المصريين الذين أخذوا ببلاغة الرجل وقدرته العالية على الخطابة والإقناع. كما أنه أول رئيس أسود يحكم أقوى بلاد العالم، فهو إذن شخصية أسطورية نادراً ما يصادفها المرء فى عمره، ناهيك عن النزول بفندق ضخم يبعد أمتاراً عن قصر الرئاسة، وفى تاريخ قريب من حفل تنصيب الرئيس الجديد.

تحقق الحلم بكل تفاصيله السابقة، وكنت على موعد مع تلك الزيارة بدعوة من أحد المؤتمرات الدولية المعنية بأسواق المال. وقد ظللت أمنّى نفسى بصدفة تجمعنى بالرئيس أوباما كما يحدث بالأفلام السينمائية، ولكن صدفة من نوع آخر جمعتنى بالفنانة العالمية "أنجلينا جولى" أثناء تصويرها لأحداث فيلمها الجديد ببهو الفندق الذى كنت مقيماً فيه. وعلى أية حال أظن أن أوباما نفسه كان ليحسدنى على هذا اللقاء. صدفة أخرى وقعت فى بداية الرحلة وتحديداً أثناء توقفنا للترانزيت بمطار هيثرو بلندن، حيث اكتشفت أن الطائرة التى تقلّنا كانت تحمل السيد جمال مبارك وحرمه، وقد كانا فى طريقهما إلى الولايات المتحدة فى زيارة أظنها الأهم على الإطلاق بين أسفار السيد جمال.

لكن الأمر الذى لم يخطر لى ببال أن تترك هذه الزيارة مرارة فى نفسى لم أعهدها فى أى من رحلاتى خارج البلاد، بما فى ذلك زيارتى للولايات المتحدة فى أسوأ عهودها إبان الولاية الثانية للرئيس بوش الابن. تلك الغصة التى مرّرت علىّ إقامتى بواشنطن، بدأت من مطار دالاس وانتهت فيه. فبعد رحلة شاقة عبر الأطلنطى امتدت لما يقرب من اليوم اصطدمت فى المطار برجل من عينة الرئيس السابق، عابس الوجه شاحب، تعرف فى عينيه نظرة الكراهية وتسمع من لكنته نبرة صلف واستعلاء. رمقنى الرجل بعينى رأسه الأصلع وكأنما استوقف إرهابى متنكر، وطلب منى الانتظار حتى يعيد فحص جواز السفر، ثم أجلسنى بجوار فتاة إيرانية تبكى على كتف أمها بعد أن مارس هو وزملاؤه عليهما صنوف التهديد والترويع والإهانة، لأنه اشتبه بالفتاة ولم يرد للأم أن تجلس بصحبة ابنتها! يا الله ما هذا التجبّر؟ الفتاة فى العشرين من عمرها وتتحدث الإنجليزية بطلاقة إلا أن أمها التى أبت أن تتركها وحدها بهذا المطار النائى الموحش لا تفهم كلمة إنجليزية واحدة. أخذتنى الشهامة لوهلة وهممت بالزود عن القوارير أو طلب الرحمة على أقل تقدير، ولكن سرعان ما مرت بذاكرتى صور التعذيب بجوانتانامو وأبى غريب، والمصير الذى ينتظرنى إذا ما مارس علىّ هذا الريفى الأصلع وزميله الزنجى العملاق بعضاً من تلك الفنون، أو فى أحسن الظروف ماذا يكون مصيرى إذا وقعت فريسة الاشتباه المتعنت وقضيت ليلتى محتجزاً رهن تدابير قانون الإرهاب؟ لزمت الصمت ولم أتحدث إلا عن نفسى وبعد مرور نحو نصف الساعة جاء جواز سفرى مع رجل باش، سألته عن سبب هذا الإجراء الغامض هز رأسه مهوّناً علىّ وأخبرنى أن السر هو تعدد التأشيرات على جواز السفر! كنت أحسب هذا علامة طيبة، تبعث على الثقة فى أمر صاحب الجواز خاصة إذا كان فى رحلة عمل، ولكن كونك عربيا شرق أوسطى مسلما هو أمر لا تأمن معه مثل هذا النوع من التعسّف وسوء المعاملة.

أما فى رحلة العودة فالوضع كان اهون بكثير، فقد وجدت القفل الذى احكمت به إغلاق حقيبتى منزوعاً تماماً وبداخل الحقيبة ورقة من سلطات مطار دالاس، تخبرنى بكل غطرسة وصفاقة أن كسر القفل بدون تعويض أو إحلال هو إجراء طبيعى يحق للسلطات القيام به لإجراء تفتيش دقيق لمحتويات الحقيبة! تعجبت لهذه الجرأة وتساءلت أنا وزوجتى، التى وقفت بجوارى مذهولة، عن الحرية المزعومة واحترام الحقوق، ولماذا لم يطلب منى فتح الحقيبة بالمطار لدى مرورها بجهاز كشف المحتويات، الذى بالمناسبة يكشف كل تفاصيل الحقيبة؟، أقسمت ألا أدخل لهم بلداً بعد الآن مختاراً. فقد تحمّلنا خلع الأحزمة والأحذية بالمطارات لأنه إجراء لا يصيبن الذين أسلموا منا خاصة، ولكن أن نموّل لهؤلاء خزائنهم الفارغة ونحفظ لهم وظائفهم الهشة بما ننفقه فى بلدانهم الموشكة على الإفلاس، ومع ذلك لا نعامل المعاملة اللائقة، فهذا أمر يفوق الاحتمال.

أمريكا التى زرتها فى مارس الماضى ليست الدولة العظمى التى نعرفها، بل هى دولة مريضة عجوز تنهشها الديون وتنخر عظامها البطالة، حتى إن الفندق الفخم الذى نزلت به تعرضت فيه لوقائع مخجلة من طاقم الخدمة بأحد المطاعم، أهونها كان استدرار البقشيش بصورة أقرب إلى الابتزاز، وقد ضاعف من سوء الواقعة عدم بلوغى اعتذار لائق من إدارة الفندق.
وبالأمس القريب قرأت عن الفتاة الأمريكية التى أرادت الانتقام من مصرى نبذها فأبلغت عنه المباحث الفيدرالية واتهمته زوراً بالانتماء إلى جماعات إرهابية. صحيح أن المحكمة قد انتصرت أخيراً للشاب ضد الفتاة، ولكن بعد أن تعرّض الرجل الشريف لإهانات وانتهاكات بالغة لحقوقه التى وقف وحيداً مطالباً بها. أقول وحيداً لأنه لم يجد فى ظهره سفارة أو حتى جمعيات أهلية مصرية تؤازره وتقتص له. الشعور بأنك متهم حتى يثبت العكس هو إحساس مرير ظللنا منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر نتجرعه صاغرين محتملين عن بن لادن وعصابته كل الخطايا والذنوب، ولكن المسألة أصبحت سخيفة ولا تقبل المزيد من التهاون والتبرير، التهاون فى حقوقنا والتبرير لانتهاكهم إياها.

لم أكن يوماً من أعداء الولايات المتحدة، ولم أحملها وزر تكاسل العرب عن حل قضيتهم مع العدو الصهيونى، ولكننى لم أر فى واشنطون أوباما ما يدعم هذا الموقف الذى ربما استنزل بى سخط إخوانى المصريين ممن يحلو لهم تصنيف أصحاب الرأى بين وطنيين ومطبّعين. أعلم أنه من غير الإنصاف أن نقرن تلك الوقائع باسم أوباما الذى لم يجلس على كرسى الحكم إلا أياماً، ولكن ما أردت أن أقوله عبر هذا المقال هو أن "بوش" فكراً ومنهجاً لم يرحل عن أمريكا بسقوط حزبه فى انتخابات الرئاسة، بل هو مسخاً يسكن وجدان الكثير من الأمريكيين الذين اتخذوا من كل ما جهلوا أعداءً لهم ولحضارتهم، وللأسف هم شعب يجهل الكثير.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة