إسلام بحيرى

الوهابيون دلسوا فى معنى آية «يانساء النبى» فجعلوه يوجب منع الاختلاط

تحريم الاختلاط بين النساء والرجال فى الإسلام وهم كبير

الخميس، 02 يوليو 2009 09:58 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄العقلية الإسلامية بعد النبىصلى الله عليه وسلم عادت لمفاهيم الجاهلية التى تعتبر المرأة فتنة وعورة
◄ كانت النساء فى العهد النبوى يعملن ويحاربن.. والدليل تجارة أم المؤمنين السيدة خديجة
◄كان المجتمع النبوى نقيا فى تصور علاقاته الاجتماعية بين المرأة والرجل حتى لو أتيح اللقاء فى المسجد أو الحج أو العمل

فى حقبة الإسلام الوهابى المظلم التى يعيشها العقل المسلم المعاصر، دائما ما نجد خطابا موجها ومركزا على تدمير الحياة الاجتماعية الصحية بين طرفى المجتمع المسلم, خطابا أحمق يخترع ويبتدع مصطلحات مضافة لم يعرفها الإسلام فى عصر التطبيق النبوى، وهو عصر التطبيق «الأساس» الذى يبنى عليه ويؤخذ منه, ولا يضاف إليه أو يزاد عليه, لكن الدين «المتوهبن» اليوم صور للعقل المسلم أن خروج النساء من بيوتهن للعمل أو لغيره كان سببا مباشرا لفساد الدين والدنيا, بل إن الحمق المركب يتخطى ذلك، حيث يتخذ الجهل البهيم مساره التصاعدى الطبيعى لنجد أنصار الوهابية يدَّعون أن كل كوارث وهزائم المجتمعات الإسلامية اليوم سببها خروج النساء, حتى عودة القدس من محتليها ربطها السفهاء بعودة النساء إلى خدورها - بيوتها .

وحسب النهج الذى يتبعه الوهابيون، فهم يخترعون دوما فى الدين المضاف مصطلحات تؤسس لهم، وتمهد الطريق لاستتباب أركان تسلطهم بالغلبة على الوعى العام عند المسلمين, فاخترعوا وابتدعوا لهذا الشأن مصطلح «الاختلاط»، وهم يقصدون به توصيف حالة خروج المرأة المسلمة من بيتها للعمل أو للدراسة أو حتى للتنزه والتبضع, وقد أجاد الوهابيون كعادتهم - فى اختيار ونحت المصطلح، حيث توحى كلمة «الاختلاط» لسامعها بشىء حقير فى النفس، ليتخيل أن ممارسة المرأة المسلمة لحياتها الطبيعية ودورها الاجتماعى، هو اختلاط يمثل تمازجا جنسيا بين المتواجدين فى مكان واحد, بل إنهم قد زادوا عليه المصطلح التراثى الشهير «الخلوة المحرمة»، ليخلطوا الأوراق على السامعين, برغم أن «الخلوة» فى الشريعة ليست تتمثل فى وجود نساء ورجال، أو رجل وامرأة فى مكان واحد وحسب, ولكنها تعنى وجود رجل وامرأة باتفاق منهما فى مكان واحد، لا سبيل بأى شكل لدخول شخص ثالث عليهما أبداً.

ومن هذا وغيره اختلطت المفاهيم الأساسية للشريعة، واستقر فى نهاية الأمر الوعى المسلم على أن النساء جمرة من لهب, وقطعة من فتنة محققة, إذا ما ظهرت على الرجال ذهبت عقولهم، وهموا بمواقعة الحرام معهن, ما أدى بدوره لتوليد مجتمعات مريضة لا ترى المرأة إلا آلة جنسية وشرا مستطيرا ينتشر بين الرجال ليفسد عليهم دينهم ودنياهم.

وهكذا خرجت إلينا أجيال مريضة تبطن اعتقادا راسخا، أن الدين يحدد ويقصر على المرأة مكانها بالبيت، صيانة لها من الوحوش والذئاب, حيث رسخ الظلاميون مفاهيم المرضى بالجنس كمفهوم عام, فأصبحت ممارسة الحياة الاجتماعية بشكلها المعاصر للمرأة المسلمة، هى طريق مؤدية لا محالة للوقوع فى الحرام, وقد ساعدهم على تثبيت هذه المفاهيم، وتأكيد اختراع «الاختلاط المحرم» هذا الكم المتزايد من العلاقات الآثمة والزيجات السرية التى انتشرت فى المجتمعات الإسلامية, فنجحوا بدهاء معروف فى ربط تلك النتائج بمقدمات تسبقها وهو «الاختلاط», فصدق الوعى المسلم أن خروج النساء سبب لكل هذه المهالك التى نشهدها، وأن براءتنا من تلك الآفات والآثام، إنما تكمن فى الحل السحرى، وهو رجوع النساء لـ«الحرملك».

برغم إن كل هذه الآفات الاجتماعية، ما هى إلا نتاج وإنتاج من هذه المفاهيم, المفاهيم التى عطلت التواصل الاجتماعى بين شقى المجتمع بشكله الصحى، وأسست فى سبيل ذلك مفاهيم فتنة المرأة وأنها عورة كلها، لذا فالأصل وقارها فى البيت، ولفق الوهابيون - كعادتهم الأليفة - نصا قرآنيا لا علاقة له بهذا المعنى, وهى الآيات التى نزلت فى نساء النبى خاصة، وليست لكل نساء المؤمنين بعمومهم.

وقد قلنا فى مقالنا «السياق فى القرآن» تفسيرا لهذا النفاق الوهابى والتراثى من قبله ما نصه: «يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» الأحزاب (32/34), فالآيات بلا شك كما هو موضح موجهة إلى نساء النبى خاصة، وذلك لعظم شأنهن ولمكانتهن الروحية والحكمية فى الإسلام، حيث هن أمهات المؤمنين, ورغم إن المعنى المراد من الآية والموجه لنساء النبى، لا يحتمل أبدا منعهن من الخروج من بيت النبوة, لكن الوهابيين دلسوا فى معنى الآية اللغوى، فجعلوه يوجب منع الاختلاط، وهو مصطلح من اختراعهم, ثم دلسوا للمرة الثانية فى توجيه السياق لكل النساء المسلمات ليضيقوا عليهن حياتهن ويحرموهن من الحياة الاجتماعية السليمة.

فلما خرجت المرأة وتحررت من قيود السبى الذى فرض عليها قرونا بفضل رؤية ذكورية فقهية وليس نظرة إلهية شرعية, ولما انتشرت وتمكنت فى بداية السبعينيات الآلة الوهابية, أنتج ذلك مجتمعا غير مؤهل للتواصل الصحى بين الرجل والمرأة, مجتمعا مضطربا لم يؤهل أبناؤه لإعادة تعريف العلاقات السليمة والصحية بين شقى المجتمع المسلم, فأصبح حائرا, بعضه يرى أن وجود المرأة وتواصلها مع الحياة فى العمل والشارع والبيت إنما هو أصل من أصول الحياة، وبعضه أصابته اللعنة الظلامية، فنجده يحرم ذلك التواصل, بل إنى رأيت بنفسى من يستقيل من عمله ويضيِّع وراءه من يعول، لأنه اقتنع بقول الوهابيين إن المال المكتسب من مكان عمل تختلط فيه النساء بالرجال هو مال حرام سحت.

إذن نحن أمام كارثة اجتماعية تتقاطع وتتضاد مع قيم الحياة الإنسانية من أساسها, وأيضا أمام كارثة دينية لا تعد إلا جزءا من براءة الاختراع المحفوظة باسم الوهابيين، لاختراع دين جديد يخالف النص القرآنى والسنة الصحيحة ويلتف حولهما التفاف الأفاكين والمنافقين, كما بينّا فى مدلول مصطلح «الخلوة», وكذلك فى إغفال السياق القرآنى فى آية نساء النبى، لذلك فليس لدينا وسيلة لمواجهة المرض الوهابى الذى أصاب الوعى المسلم فى مقتل، إلا أن نعود للمربع الأول لنرى كيف كانت الحياة الاجتماعية الصحية فى العهد النبوى، العهد الذى كان يعتمد المجتمع بطرفيه الرجال والنساء كأساس للبناء الحقيقى.

وسنورد الأمثلة التى توضح كيف كلمنا القرآن عن هذا التواصل، وكيف أكدته السنة النبوية, ثم نتوقف بالنظر عند آخرها، وهى رواية واحدة صحيحة وثابتة، لتوضح لنا كيف التف التراثيون ومن بعدهم الوهابيون حول النصوص الصريحة:
أولاً:
كان النساء والرجال يخرجون للصلاة فى عهد رسول الله, وقد استشف النبى واستشرف بفراسة النبوة بوادر للجلافة البدوية، والتشدد تجاه النساء فى ذلك الأمر، فقال قولا صريحا فى حديث ثابت صحيح قال:« لا تمنعوا إماء الله مساجد الله« أخرجه أحمد (9362) وأبو داود (565), ولكن اللافت للنظر أن خط التشدد الذى فاق ما قاله النبى وأقره ليس وليد اليوم، بل فى عصور قريبة العهد بالنبى، فقد جاء بإسناد صحيح عند أبى داود (2213) وغيره رواية عن: عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: إِذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمُ امْرَأَتُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا, قَالَ بِلاَلُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ: فَسَبَّهُ عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ أَسْوَأ مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ قَطُّ، وَقَالَ: سَمِعْتَنِى قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ, قُلْتَ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ».

فهذا هو «بلال» ابن الصحابى الجليل «عبدالله بن عمر» يسمع قول رسول الله بخروج النساء ثم يقسم ألا يخرج النساء, ولكن رد أبيه كان حاسما فسبه ولطمه على وجهه كما فى روايات أخرى, ولكن الآن من يلطم الوهابيين على وجوههم ليستفيقوا كما فعل «ابن عمر».

ثانيا:
كان النساء والرجال يصلون فى مسجد الرسول مجتمعين صفوفا متراصة بلا ساتر ولا حاجب, ولم ينكر رسول الله ذلك الاجتماع بينهم قبل الصلاة وأثناءها وبعدها، لأن ذلك الاجتماع أصل من أصول الحياة الإنسانية عند العقلاء, وذلك لأن المجتمع حينها كان صحيا ونقيا فلم يفترض النبى أو غيره أن يشتهى رجل من المسلمين النساء اللاتى يصلين وراءه، لأن الإسلام لم ينزل إلى الدنيا لافتراض أن الرجال والنساء من مرضى القلوب، يتركون الصلاة ويتفرغون للشهوة، وحتى لو حدثت الشهوة فى هذا الموضع فى نفس أحدهم أو أحدنا فهى حالة فردية مَرَضية, والإسلام نزل لأصحاء القلوب, بل إن النبى أمر النساء فى صلاة العيدين أن يخرجن ولو كُنّ فى فترة عدم الصلاة, ولكن الآن، ولأن أجيالا تربت على دين الوهابية فلعلهم لا يستطيعون احتمال وجود المرأة معهم فى المسجد دون ساتر ولا حائل, وهكذا نجح الوهابيون فى انتزاع التواصل السليم والصحى بين الرجل والمرأة فى الإسلام، ووضعوا مكانه مفاهيم الفتنة والعورة، فأصبح العقل المسلم الذكورى لا يتخيل فى المرأة إلا وساوس وهلاوس جنسية حتى لو كانت تصلى خلفه فى المسجد, ولو كان الاختلاط رغم دناءة المصطلح - حراما لكان أولى أن يكون حراما فى مسجد رسول الله وبحضرته, بل إننا نجد الشعيرة الكبرى فى أعمدة الدين وهى الحج، قائمة فى أساسها على الاختلاط, فالنساء يطفن مع الرجال مختلطات، وقد كانت أمهات المؤمنين أنفسهن يفعلن ذلك كما ثبت ذلك عند البخارى وغيره, بل إن النساء فى الحرم يصلين قبل الرجال، وكثيرا ما يصلى الرجال خلف النساء الغرباء, ولكن الإسلام كما قلنا لم ينزل ليفترض أن كل الرجال من المرضى الذين يذهبون للحج أو العمرة لاختلاس النظر إلى النساء فى الحرم.

وعلى هذا، كان المجتمع النبوى نقيا صافيا فى تصور علاقاته الاجتماعية ولقاءات شقى المجتمع, وحتى لو أنتج اللقاء فى المسجد أو الحج أو العمل أو غيره تلاقيا وإعجابا بين الرجل والمرأة، فما ذلك بحرام ولا فحش, فالله قال فى القرآن: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات 13, وهذا التعارف هو التواصل الاجتماعى بين نوعى البشر من أبناء آدم, وأيضا حدثنا الله فى القرآن عن المشاعر المتولدة بين رجل وامرأة يتوقان للحلال من ورائها فقال: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا» البقرة 235, وكان ذلك فى النساء اللاتى توفى عنهن أزواجهن, وكذلك غيرهن, فقد علم الله أن «الذكر» وهو المشاعر والهوى - وليس الخطبة كما فسرها التراثيون - مباح، ولكنه حذر أن يتواعدا سرا، لأن ذلك لا شك مخافة ألا ينتظرا الحلال, وعلى هذا التواصل الراقى تقوم المجتمعات، فمن أين سيعرف الناس بعضهم، ومن أين سيحصل الزواج إن لم يتواصل نوعا المجتمع فى مسجد أوعمل أوجيرة, وتتولد من هذا اللقاء مشاعر دافقة تنتهى بالزواج؟ وقد رأينا عشرات بل مئات القصص التى تبدأ بمشاعر بين رجل وامرأة التقيا فى عمل أو سفر أو حتى مسجد، وتتحول إلى حب ينتهى بزواج مبارك وذرية صالحة, هذا ما أقره القرآن, وقد أقر النبى بتلك المشاعر الإنسانية ولم ينكرها, وللتدليل على ذلك يكفينا أن نقرأ القصيدة التى قرضها وألقاها «كعب بن زهير» أمام رسول الله وفى داخل باحة مسجده الشريف يطلب العفو وكان مفتتح القصيدة بغزل من «كعب» فى امرأة أعجب بها فقال:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول........ متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا...... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
وهى قصيدة طويلة مليئة بالغزل, ولم ينكر رسول الله ذلك الغزل على «كعب» وإسناد هذه الرواية فى كتب الحديث قوى متواتر لا شك فيه ولا مطعن.

ثالثا:
كانت النساء فى العهد النبوى يعملن ويتَّجرن ويطببن الناس على سواء, وليس أدل على ذلك من التجارة التى كانت تديرها أم المؤمنين السيدة «خديجة» أول من آمنت من النساء, وهناك «الشفاء بنت عبدالله العدوية» وهى من فضليات النساء وأوائل الذين آمنوا بالإسلام وكانت تعرف القراءة والكتابة وكانت تطبب الناس بالرقى فى الجاهلية فلما أسلمت عرضت ما كانت تفعله على رسول الله فأقرها عليه فكانت فى الإسلام تطبب الرجال والنساء على سواء، وفى عهد عمر بن الخطاب ولاها «عمر» رئاسة السوق, فها نحن نجد المرأة تخرج للعمل المختلط فى زمان النبى وفى عهد كبار فقهاء الصحابة من بعده, ومازلنا لليوم نرى هؤلاء النساء الرائعات المجاهدات أصحاب قصص الكفاح الشريفة اللاتى وقفن كالسند بجانب أزواجهن لما ضيق عليهم الرزق فأعانوهم وعضدوهم وأضاعوا أعمارا فى العمل خارج وداخل بيوتهن ولم نر من الله إلا كل رضوان عليهن وعلى أسرهن رغم أن أعمالهن كانت تجمع الرجال والنساء وهؤلاء هن النساء اللاتى يستحققن لقب حفيدات الصحابيات, وليس البعائر الوهابية الذين يدَّعون أنهم أحفاد الصحابة, ولكن الوهابيين إخوة شقائق لليهود الذين قال الله فيهم: «وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ» المائدة 13 والتحريف هو تغيير القول الذى لا يوافق هواهم, بالضبط كما يفعل توائمهم الوهابيون.

وأيضا كانت النساء فى العهد النبوى ومنهن أمهات المؤمنين يحاربن صفا مع الرجال ولم ينكر النبى ذلك ولم يقل إنه اختلاط محرم بين النساء والرجال, بل إن من دافعت عن النبى فى وقعة «أُحُد» يوم أن فرَّ الرجال كانت امرأة تشارك فى الحرب بلا غضاضة ولا إنكار عليها, وقد ثبت عند البخارى فى «الجهاد والسير» وغيره عن أنس بن مالك قوله: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبى بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثمَّ تُفْرِغَانِهِ فى أَفْوَاهِ القَوْمِ».

فها هن النساء المسلمات ومنهن أم المؤمنين عائشة يعملن فى الجهاد ويفرغن قِرَب الماء فى أفواه القوم من الرجال ولم ينكر ذلك عليهن رسول الله ولا على غيرهن العمل فى الجهاد ومخالطة الرجال, ولو قال الوهابيون ذلك قبل آية «وقرن فى بيوتكن» التى ذكرناها والتى نزلت فى السنة الخامسة للهجرة, لقلنا إن ذلك وقع أيضا بعد وقعة الأحزاب, وحتى لو كان كذلك فقد بينا أن الآية خاصة بنساء النبى فقط, وأن مشاركة المرأة من غير نساء النبى فى كافة مناحى الحياة مع الرجل ثابتة بالقرآن والسنة.

وكل ذلك الذى ذكرنا هو قليل من كثير يبين كيف كان المجتمع النبوى طاهرا نقيا يؤسس لمفهوم راق لعلاقة الرجال والنساء, ولكننا سنتوقف هنا مع رواية لنطيل فيها النظر لأنها ستوضح الفارق الكبير بين تصور مجتمع النبوة وتصور المجتمع الذى بناه الوهابيون عنوة فى عقول المسلمين, وهذه الرواية أخرجها البخارى ومالك فى الموطأ وأخرجها أحمد وأبوداود والنسائى وابن خزيمة.

«حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فى زَمَانِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمِيعَاً» البخارى (193).
وهذه الرواية ثابتة بإسناد عال قلما نجده فى أسانيد البخارى ومسلم, والإسناد العالى ببساطة هو السند القصير فى عدد الرجال والقريب من رسول الله, ولهذا قال العقلاء من أهل الحديث إنه كلما طال الإسناد طال النظر فى الجرح والتعديل, كما أن هذا الإسناد وهو «مالك عن نافع عن ابن عمر» إنما هو من أفضل وأوثق الطرق فى كل أسانيد السنة مجتمعة, والحديث ينتهى إلى «عبدالله بن عمر» وهو ما يعنى أنه حديث موقوف على حسب مصطلحات علم الحديث, ولكن العقلاء من أهل الحديث أقروا أنه فى حكم المرفوع للنبى لأن كلام الصحابى المؤكد والذى لم يعارض بغيره هو نقل عن فعل أو إقرار للنبى.

إذن ماذا نفهم من الحديث, نفهم أن الرجال والنساء فى زمان رسول الله كانوا يتوضؤون فى مكان واحد فى وقت واحد من ماء واحد وهو ما كان يسمى «المطاهر» وذلك بلا ساتر ولا حاجب, وقد أخذت النقاشات المحتدمة بين التراثيين والمعاصرين مأخذها فى إنكار المعانى المترتبة على هذا الحديث الصحيح, ولكن مآخذ المناقشات كانت كلها تصب ناحية السؤال: هل يمكن ظهور أعضاء الوضوء من المرأة أمام الرجل؟ لذلك فإننا سنؤجل الكلام عن مقصد الحديث فى هذه الناحية إلى مقال خاص عن حكاية «الحجاب» الذى ملأ الدنيا وشغل الناس, ولكننا فى هذا الموضع سنهتم بالمفهوم الأهم الذى تناساه الجميع, وهو الاجتماع بين الرجال والنساء فى غير صلاة ولا حج ولا عمرة حيث إن الأزلام الوهابية قد أشاعت أن الاختلاط محرم إلا فى الحج والعمرة وهو ضرورة ولو أنهم يملكون لتخطوا فعل النبى وجعلوا حجا للرجال وآخر للنساء, ولكن فى هذه الرواية بالذات ظهر كذبهم ونفاقهم المعهود, وقد ورثوا الالتفاف حول هذا النص ميراثا لم يبتدعوه, لذا فيكفى أن ننقل ما قاله «ابن حجر» فى «فتح البارى» تفنيدا لهذه الرواية.

فقال: «قوله: (جميعا) ظاهره أنهم كانوا يتناولون الماء فى حالة واحدة، وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعا فى موضع واحد، هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة، والزيادة المتقدمة فى قوله «من إناء واحد» ترد عليه، وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب، وقد أجاب ابن التين عنه بما حكاه عن سحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون ثم تأتى النساء فيتوضأن، وهو خلاف الظاهر من قوله «جميعا»...، وقد وقع مصرحا بوحدة الإناء فى صحيح ابن خزيمة فى هذا الحديث.... أنه أبصر النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهر منه، والأوْلى فى الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم»، فتح البارى (1/376).

وهنا نرى العجب العجاب من «ابن حجر» فبرغم أنه رد وأنكر فى تعليقه على الحديث من التف ودار على المعنى الصريح منه, فبعضهم قال إن المعنى من إناء واحد كل على حدة, فرد عليهم «ابن حجر» بقوله إن ذلك مردود بجملة «من إناء واحد», ثم قال آخرون إن معناه أن الرجال كانوا يتوضؤون ثم يذهبون ثم تأتى النساء ويتوضأن, فرد عليهم «ابن حجر» بقوله إن كلمة «جميعا» تعارض ذلك الافتراق وأكد أنهم كانوا يتوضؤون جميعا من إناء واحد فى وقت واحد, ولكن الدهشة تفرض نفسها مما فعله «ابن حجر» فى نهاية تعليقه, وهو مطابق لما فعل الذين رد هو عليهم, فقد قال: «والأوْلى فى الجواب أن يقال: لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم», وهذا عمل غريب فإذا كانت مدلولات الحديث واضحة فى كل كلمة فى الحديث فلماذا إذن تناسى «ابن حجر» كلمة واضحة ترد على قوله أن ذلك الوضوء الجماعى كان قبل فرض الحجاب, فأين نص الحديث الذى يصرح فيه «ابن عمر» بالقول: «كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّؤُونَ فى زَمَانِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمِيعَاً» فأين جملة «فى زَمَانِ رَسُولِ الله», وهى جملة تؤكد أن ذلك الوضوء بهذه الكيفية لم ينسخ بالحجاب ولا بغيره, ولم ينسخ أو يلغ حتى توفى رسول الله, وهو إقرار من «ابن عمر» بإسناد الفعل لكل زمان رسول الله قاطبة بلا نسخ أو إلغاء, فمعنى قوله «فى زَمَانِ رَسُولِ الله» أن ذلك ما توفى عليه رسول الله وهو لم ينكره لأنه مما لا يستحق الإنكار, بل إن ذلك ما يثبت عظمة وروعة المجتمع النبوى، فلماذا يا ترى أنكر وأغفل «ابن حجر» الجملة الواضحة التى تنفى النسخ والإلغاء؟

لأن العقلية المسلمة بعد النبى أخذت فى الارتداد شيئا فشيئا حتى عادت إلى ما لم يرده الإسلام فى شريعته، عادت لمفاهيم الجاهلية التى تعتبر المرأة فتنة وعورة.

ولكن الإسلام شريعة وفهما لم يفترض يوما أن كل الرجال ذئاب جاهزة وأن كل النساء عاهرات ينتظرن الفرصة, كما عتم الوهابيون وعكروا بهذه المفاهيم على روح الإسلام النقية.

فحكاية الوضوء ما هى إلا اجتماع طبيعى بين الرجال والنساء كما اجتماعهم فى المسجد للصلاة أو فى الحج والعمرة أو فى الجهاد أو فى العمل أو السكن, هذا الاجتماع الذى هو أصل الحياة الإنسانية.

إذن ماذا نريد من كل تلك الأمثلة وأخصها المثل الأخير، هل نريد أن يتوضأ الرجال والنساء بدءا من الغد فى مطهر واحد؟ لا نريد ولن يحدث, لأن ذلك فات أوانه فقد تربت أجيال مريضة بالهوس الجنسى ولو رأى هؤلاء النساء تشاركهم الوضوء لفروا هاربين وهلعين من المسجد حيث أقنعهم الظلاميون أن ظهور المرأة وحلولها بمكان إنما يفسد الدين والدنيا على سواء.

فنحن لم نورد كل تلك الأمثلة لإعادة تطبيقها, بل فقط لإعادة تعريفها وإثباتها لتبيين الفرق بين الإسلام النبوى الذى قَِبل المرأة والرجل شركاء مجتمعين فى بناء المجتمع فى العمل والتجارة والأسواق والسكن والجيرة وقَبِلَهم مجتمعين أيضا فى الصلاة والوضوء والحج والجهاد والسفر, ولم يعرف الإسلام يوما شيئا اسمه «الاختلاط» ولا تحريما له أو عليه, بل الإسلام الحقيقى هو الذى أسس قبل أن يتوارى خلف ركام الفقهاء وخلف دين الوهابية, أسس لعلاقة اجتماعية مشتركة وراقية بين الرجال والنساء كشقائق كما قال النبى فى حديثه, أسس لمجتمع لا يلهث وراء الهلاوس الجنسية بل يؤطر ذلك بأطره المعروفة من خطبة وزواج.

ولعلنا يوما نخرج أجيالا جديدة تتربى على قيم الشريعة وليست قيم ما بعدها ولا من بعدها, أجيالا تفهم جيدا كنه العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة من خلال مجتمع طبيعى لا يعج بمرضى النفوس.

مجتمع يخلو من الجرثومة الوهابية, فالوهابية طاعون فى جسم المجتمع الإسلامى نحاول جاهدين أن نجد له مصلا وترياقا, لعل الوعى المسلم يتخلص يوما من هذه الجراثيم الوهابية ومن وبائها, وليس ذلك على الله ببعيد.






مشاركة




التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

بدون

الاختلاط لا حرج

الخلوة لا

عدد الردود 0

بواسطة:

امال.زهير22

عظيم .يا.اسلام

ما فيش حجاب.لاقبل.الحديت ولا.بعده..محترم .يا.اسلام

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة