أحمد عبدالمعطى حجازى

الشرقاوى من الشعر إلى النثر

الخميس، 02 يوليو 2009 10:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
سأعود بكم إلى نقطة البداية فى هذه المقالات التى أتحدث فيها عن الشعر والنثر وعن علاقة كل من الفنين بالآخر.

وكنت قد بدأت هذا الحديث بالكلام عن عبدالرحمن الشرقاوى هذا الاسم الكبير الذى بدأ الطريق شاعراً، ثم تحول إلى ناثر يكتب القصة والرواية والسيرة، والمقالة بالإضافة إلى المسرحية الشعرية، ويتوقف عن كتابة القصيدة.

كيف تحول الشرقاوى إلى روائى؟ وكيف حدث هذا لغيره من الشعراء الذين صاروا روائيين، أو الروائيين الذين بدأوا شعراء؟
هذا السؤال كان يراودنى، كما كان يراود غيرى من الشعراء والكتاب الذين جربوا الفنين أو الذين اقتصروا على فن واحد، ونحن نعرف أن العقاد، وهو شاعر حقيقى، وناثر من الطراز الأول لم يكن يعدل بالشعر فنا آخر، وكان يرى أن الشاعر قد يقول فى بيت واحد ما لا يستطيع الروائى أن يقوله فى مئات الصفحات.

والكلام يطول عن الفرق بين الشعر والنثر، لكننا نستطيع فى المقابل أن نتحدث عما يجمع بينهما.

لغة الرواية، وحتى لغة المقالة، ليست منقطعة الصلة عن لغة القصيدة، فالشعر لا يخلو من وصف وسرد وتقرير والرواية، وحتى المقالة، لا تخلو من تصوير وانفعال، والشعر والنثر إذن فنان شقيقان يعبران عن واقع الحياة ويخاطبان النفس الإنسانية، فمن الطبيعى أن تكون بينهما عناصر مشتركة، وأن يجمع بينهما القلم الواحد، كما جمع بينهما جوته، وفيكتور هيجو، وبلزاك، ومارسيل بروست، وجميس جويس، وأراجون، وباسترناك فى الآداب الأوروبية، وعندنا المازنى الذى بدأ شاعراً مبدعاً قبل أن ينتقل إلى القصة مؤلفاً ومترجماً، والعقاد الذى كتب قصته الوحيدة «سارة» بعد عشرة دواوين، وطه حسين الذى لا يعرف الكثيرون بداياته الشعرية، كما لا يعرفون بدايات توفيق الحكيم، أما شوقى فأعماله الروائية هى المجهولة، ومنها عذراء الهند، ولادياس، وشيطان بنتاءور، وورقة الآس، ومسرحية أميرة الأندلس وهى مسرحيته الوحيدة التى كتبها نثراً.

ومن الأطباء العرب الآخرين الذين جمعوا بين الشعر والنثر ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، والطيب صالح.

لكن الشعر مع هذا غير النثر، بمعنى أن الشعر سابق من ناحية، وأنه شرط من ناحية أخرى، فالكاتب لا يستطيع أن يكون ناثراً إلا إذا بدأ بالشعر أو من الشعر، لأن الشعر كما ذكرت من قبل هو بداية الوعى وبداية اللغة.

الشعر فن الصبا، صبا البشرية، وصبا الإنسان الذى يبدأ حياته شاعراً أو متلقياً للشعر، لأن الشعر هو فن التجربة الأولى، فن المغامرة والاكتشاف والانفعال، أما الرواية فهى فن الخبرة، والملاحظة، وإعمال الفكر، والمقارنة بين النماذج، وتوقع المصائر والنهايات.
هكذا يمكننا أن نفسر كيف يتحول الشعراء إلى روائيين، ولنأخذ الشرقاوى مثالاً على ذلك.

لقد بدأ رومانتيكياً، إذ كان فى حوالى الثانية عشرة من عمره حين تألفت جماعة «أبوللو» وصدرت مجلتها الشهيرة، ولاشك أنه كان من قرائها المواظبين، ونحن نرى فى شعره الأول الذى نظمه فى أواخر الثلاثينيات وأوائل الربعينيات من القرن الماضى لغة شعرية وثيقة الصلة بلغة الرومانتيكيين أمثال على محمود طه، وإبراهيم ناجى، وأبى القاسم الشابى، وإيليا أبى ماضى، موضوعات الرومانتيكيين كالحب المكتوم، والحب العاثر، والشعور بالاغتراب، وأنسنة الطبيعة، والفرار إليها، وطلب الحرية، والتمرد على السلطة والمجتمع.
أتراها إذا دعوت مجيبة
أم عساها تصد تلك الحبيبة
وهى تنساب كالليونة، كالصفو،
كخمر عتيقة مسكوبة
عذبة لا تكاد تبصر منها
غير آيات رقة وعذوبة
والمعجم الذى يستخدمه الشرقاوى هنا هو المعجم الذى نعهده عند الرومانتيكيين حين ينظمون فى موضوعاتهم المعتادة: الجنون العذب، والقلوب المحطمة، وظلمات الحزن، وينابيع الطهر، ونواقيس المساء.

والأوزان المستخدمة هى أوزان الرومانتيكيين: الخفيف، والرمل، والكامل لكن العناصر الكلاسيكية موجودة أيضاً فى القصائد الأولى للشرقاوى الذى عاش طفولته فى وجود الكلاسيكيين الكبار، وكان يسعى للاتصال بأصل اللغة وامتلاكها.
عقابيل وجد ليس يخبو سعيرها
وأطياف ذكرى لا يطاق هجيرها
لى الله فى القلب الذى سامه الهوى
نزوعاً إلى الدار التى لا يزورها
ملأت رياح الليل شكوى، وطالما
سرى بدموع العاشقين مطيرها
وقولى لها إنا صريعا صبابة
تسعَّرُ نيرانا فأياّن نورها
وأن بحلقينا من الراح لذعة!
فأين حمياها، وأين سرورها
وكان قصارانا من الدهر أنها
أميرة أيامى، وأنى أميرها!
لكن الشرقاوى كان ابن زمن آخر، وكان تعبيراً عن مطالب جديدة، ولد مع ثورة 1919، وبلغ أشده فى أواسط الأربعينيات، فى تلك السنوات التى أعقبت سنوات الحرب الثانية، واشتعلت فيها الحركة الوطنية، واتصلت فيها الثقافة المصرية بثقافة العالم، وظهرت فيها تيارات يسارية مؤثرة، وازدهرت الحركة النقابية، وأصبح لجامعة فؤاد الأول دورها الفاعل فى حركة التحرر والتقدم، وتألفت لجنة الطلبة والعمال، ونشأت من ذلك كله حركة ثقافية جديدة، ولغة أدبية عصرية مصرية بقدر ما هى فصيحة، ونبيلة بقدر ما هى حية، هذه اللغة عبرت عن نفسها فى الصحافة، وفى الرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية قبل أن تجد طريقها إلى شعر الجيل الذى ظهر فى الأربعينيات ومن أعلامه الشرقاوى، وكمال عبدالحليم، وفؤاد حداد.
هذا هو المناخ الذى قدم فيه الشرقاوى تجاربه الرائدة فى حركة تجديد الشعر ومنها قصيدته المشهورة «من أب مصرى إلى الرئيس ترومان».
وقال الرفاق: ألا قل لنا
بربك ما هذه القاهرة؟
فقلت لهم: قد رأيت القصور
فقالوا: القصور؟ وما هذه؟
فإنا لنجهلها يا ولد
فقلت: اسمعوا يا عيال اسمعوا
القصر دار بحجم البلد!
وهذه هى اللغة التى انتقل منها الشرقاوى إلى الرواية!.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة