قبل أسابيع قليلة استضاف برنامج مهم فى التليفزيون المصرى «توماس فريدمان».. كاتب العامود فى جريدة النيويورك تايمز الأمريكية.. لكى يأخذ راحته فى الحديث عن قضايا السلام والتسوية بين إسرائيل والعرب.
فريدمان عرف سابقا بأنه فى مقدمة المبشرين بالعولمة بمفهومها الأمريكى.. منذرا دول العالم الثالث والعرب خصوصا بأنه لم يعد أمامها سوى خيارين: أن تلحق بقطار العولمة بسرعة أو أن يدوسها قطار العولمة بغير رحمة، وحينما صدر له تاليا كتاب عن نفس الموضوع كانت السفارات الأمريكية تساعد فى الترويج له، لأن ما كان فريدمان يروج له أساسا هو العولمة المنفلتة المتوحشة التى يتحرك فيها رأس المال دخولا وخروجا بلا رقيب ولا حسيب.. إنه بالضبط نفس مفهوم العولمة الذى روجت له الشركات الأمريكية الكبرى عابرة القارات، والآن تتراجع عنه أمريكا ذاتها بسرعة، ولكن بعد أن صدرت إلى العالم أزمة مالية غير مسبوقة ستعانى منها شعوب العالم لسنوات تالية.
لكن فريدمان لم يكن ضيفا فى برنامج التليفزيون المصرى ليتحدث عن العولمة، تحدث أساسا عن رؤيته لمستقبل السلام والتسوية بين العرب وإسرائيل، ليس فقط باعتباره يهوديا أمريكيا لم ينكر فى أى وقت إيمانه بالصهيونية، ولكن لأنه كان قد لعب دورا ولو بشكل غير مباشر فى طرح المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل التى تبناها مؤتمر القمة العربية فى بيروت سنة 2002.
كان فريدمان هو الذى بشر بتلك المبادرة من قبل صدورها رسميا، من خلال عامود نشره فى النيويورك تايمز تعتمد مادته أساسا على حوار له مع الملك عبد الله، العرض السعودى كان المقايضة بين انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضى العربية المحتلة مقابل التزام الدول العربية جميعا بالدخول مع إسرائيل فى علاقات طبيعية كاملة، العرض كان مفاجئا ومدويا ومزلزلا لأنه يلزم 21 دولة عربية بعلاقات تطبيعية مع إسرائيل، بينما معظمها لا تلزمه أصلا مثل تلك العلاقات سواء بحكم التاريخ أو الجغرافيا أو المصلحة، مع ذلك فما بشر به فريدمان فى النيويورك تايمز سرعان ما تحول إلى مبادرة سعودية رسمية جرى طرحها فى اجتماع القمة ببيروت لكى تتحول إلى مبادرة عربية باسم القمة، ولكن بعد أن أضافت القمة إلى المبادرة ضرورة التزام إسرائيل بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وبيوتهم، أو التعويض، حسب قرارات سابقة للأمم المتحدة.
وبدل أن تصبح تلك المبادرة الخبر الأول فى الإعلام الدولى، وبدل أن تمثل «هجوم السلام» العربى الذى يضع إسرائيل فى مأزق يدفعها إلى التجاوب كما بشر فريدمان سابقا.. إذا بالعرض العربى المدهش يتوارى تماما، أما إسرائيل فبعد أن ضمنت تلك التنازلات العربية المجانية من طرف واحد، تجاهلتها بالكامل وردت عمليا بإعادة احتلالها المباشر للمدن الفلسطينية القليلة التى كانت قد أعادت نشر قواتها خارجها، وزادت بمحاصرة ياسر عرفات ومقره فى رام الله على مدار الساعة.
الآن بعد سبع سنوات يطل علينا توماس فريدمان من جديد، ومن شاشة التليفزيون المصرى، لكى يتبجح بقوله إن تلك المبادرة العربية لم تعد كافية لدخول إسرائيل فى مفاوضات حيث هو يرى أنه «ونحن الآن بعد سبع سنوات من إعلان المبادرة العربية لا يمكننا تفعيلها بمجرد إرسالها إلى إسرائيل مرة أخرى.. بالفاكس».
وسألته المذيعة: تتحدث هنا عن زيارة سعودية؟
رد الصحفى الأمريكى الفصيح: «نعم، أود أن أرى الملك عبد الله يقول لإسرائيل: أريد أن آتى لأصلى فى المسجد الأقصى».. مستبقا ذلك بقوله: «إنكم يا عرب لا يمكن أن ترسلوا تلك المبادرة إلى إسرائيل بالفاكس, بل عليكم تسليمها شخصيا.. ويجب أن تكون مصحوبة بتقدم فعلى، والانتقال إلى مستوى جديد».
فالصحفى الأمريكى الذى يقر فى البرنامج قائلا «إننى كنت مشتركا فى مبادرة السلام العربية من البداية».. يجىء الآن بعد سبع سنوات ليقول إن تلك المبادرة لم تعد كافية وإنما على القادة العرب بدءا من الملك السعودى الذهاب إلى إسرائيل لتسليمها المبادرة يدا بيد! يعنى.. لم نعد أمام صيغة «التطبيع العربى الكامل مقابل الانسحاب الإسرائيلى الكامل».. وإنما الصيغة المستجدة أساسها «التطبيع العربى الكامل مع إسرائيل.. مقابل بدء المفاوضات!».
نفس النغمة تحولت من كلمات صحفى أمريكى إلى تصريحات رسمية على لسان قادة إسرائيل فى مؤتمر لزعماء الأديان دعت إليه كازاخستان مؤخرا وحضره د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر، وجد الجميع أن شيمون يريز رئيس إسرائيل يتصدر المدعوين من خارج السياق، وكذلك يتصدر الجالسين إلى المائدة الرئيسية، وهو ما دفع الوفد الإيرانى إلى الانسحاب احتجاجا ورفضا، لكن اللافت بعد ذلك تركيز بيريز فى كلمته على دعوة سياسية لا علاقة لها بموضوع المؤتمر، لقد قال بيريز بكل تبجح واستهبال: «إننى أدعو الملك عبد الله صاحب مبادرة السلام العربية إلى مقابلتى.. فى القدس أو الرياض أو فى كازاخستان، مع كل القادة العرب، لتنفيذ رؤيته التى هى رؤية كل المؤمنين بالسلام والعدل».
فلنتذكر هنا ضمن ملف متضخم أن شيمون بيريز هذا هو صاحب مجزرة «قانا» الشهيرة فى لبنان بغير أن نعود خلفا إلى دوره المبكر فى حيازة إسرائيل للأسلحة النووية، ولنبق فقط مع هذه القفزة المستجدة فى الفواتير الإسرائيلية، ولنتذكر أيضا ما أعلنه بنيامين نيتنياهو رئيس حكومة إسرائيل ضمن خطابه فى 14/6/2009 حينما قال: «أتحول الليلة إلى القادة العرب وأقول لهم: دعونا نتقابل، دعونا نتحدث عن السلام ونصنع السلام، إننى مستعد لمقابلتكم فى أى وقت، إننى راغب فى الذهاب إلى دمشق.. إلى الرياض.. إلى بيروت.. إلى أى مكان بما فى ذلك القدس وأطلب من الدول العربية أن تتعاون مع الفلسطينيين ومعنا لتحقيق سلام اقتصادى...».
بموازاة ذلك نشرت صحيفة «هاآرتس» وصحف إسرائيلية أخرى أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطا على المغرب ودول الخليج للتطبيع مع إسرائيل مقابل خطوات لتجميد الاستيطان، وفى رسالة من الرئيس الأمريكى باراك أوباما إلى ملك المغرب محمد السادس يدعوه فيها إلى أن تقود المغرب الدول العربية على صعيد التطبيع مع إسرائيل وتنفيذ المبادرة العربية، وحسب وكالة الأنباء المغربية فإن الرئيس الأمريكى قال فى رسالته: «ينبغى على الدول العربية أن تلتزم بمبادرة السلام العربية للقيام بخطوات إزاء إسرائيل ووضع حد لعزلتها فى المنطقة».. و«بصفتكم رئيسا للجنة القدس يمكنكم المساهمة فى جعل أعضائها يعملون بشكل بناء من أجل تحقيق أهدافنا المشتركة».
يعنى: ما بدا تبشيرا بالمبادرة العربية فى سنة 2002 تحول على لسان الرئيس الأمريكى فى خطابه بالقاهرة فى 4/6/2009 إلى اعتبارها مجرد بداية لا بد أن تتلوها خطوات عربية إضافية، ثم إلى إلحاح إسرائيلى على ذهاب القادة العرب إلى القدس بأنفسهم لتسليم مبادرتهم باليد.. ثم إلى ضغط رئاسى أمريكى مستجد على المغرب للعمل مع دول عربية أخرى بهدف «وضع حد لعزلة إسرائيل فى المنطقة».
الفواتير المطلوبة تتصاعد وتتصاعد، وهكذا تابعنا أيضا صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية وهى تذكر فى 3/7/2009 أن الولايات المتحدة قدمت اقتراحا بتجميد المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية مقابل خطوات عربية محددة للتطبيع مع إسرائيل، خطوات من نوع تمكين الطائرات الإسرائيلية من التحليق فى أجواء الدول العربية.. حيث السماح لتلك الطائرات الإسرائيلية بعبور المجال الجوى للدول العربية سيؤدى إلى تقليل زمن الرحلات الإسرائيلية إلى الشرق الأقصى بثلاث ساعات.. ومن ثم تنخفض تكلفة تلك الرحلات.
لكن التقارير الأمريكية التى نقلتها وكالة «رويترز» للأنباء توسعت فى التفاصيل، فالمطلوب أمريكيا من الدول العربية ليس فقط السماح لإسرائيل برحلاتها الطائرة إلى آسيا.. وإنما أيضا «أن تتمكن إسرائيل من فتح مكاتب تمثيلية لها فى عواصم عربية جديدة» زائد عودة المكاتب القديمة، أيضا أن: «ترفع الدول العربية الحظر على دخول السياح والزوار الآخرين الذين تحمل جوازات سفرهم تأشيرات أو أختاما إسرائيلية. ومن شأن هذه الخطوة تسهيل السفر فى المنطقة للسياح ورجال الأعمال الإسرائيليين»، كذلك مطلوب أمريكيا أن تسمح الدول العربية بتشغيل الهواتف المحمولة المسجلة فى إسرائيل على الشبكات العربية.. و«هى خطوة يمكن أن تعزز العلاقات الاقتصادية»، ثم: «أن يجرى تبادل ثقافى بين إسرائيل والدول العربية، وتخفف الدول العربية من القيود التى تحول دون اجتماع مسؤوليها مع نظرائهم الإسرائيليين فى المناسبات الدولية».
ليس المطلوب إذن هو فقط التطبيع المحمول جوا.. وإنما التطبيع أرضا واقتصادا واتصالات وعلاقات وزيارات وفتح السماوات العربية على البحرى أمام إسرائيل.. وشبكات المحمول هنا وهناك رايح جاى ليصبح زيتنا فى دقيقنا.. زائد أن تلتزم الدول العربية بالعمل حثيثا على «فك عزلة إسرائيل فى المنطقة»، كل هذا فقط.. فقط.. فقط: فى مقابل قبول إسرائيل تجميد التوسع فى مستوطناتها بالضفة الغربية.
اختفى إذن أى حديث عن أن تلك المستوطنات هى من الأصل غير مشروعة.. ولم يعد هناك حديث عن أن الاحتلال الإسرائيلى عدوان على القانون الدولى مستمر للسنة الثالثة والأربعين على التوالى.. وقبل هذا وبعده لم تنشر صحفنا المحترمة وقائع الدور الإسرائيلى فى دارفور لتفكيك السودان.. ولا وقائع دورها فى كينيا وإثيوبيا للضغط على مصر فى ملف مياه النيل، بل إن صحفنا المحترمة لم تنشر بالمرة ما نقلته وكالات الأنباء فى 7/7/2009 عن أن الجزائر تحقق فى وجود شبكة سرية أقامتها المخابرات الإسرائيلية للتجسس على وارداتها من الأسلحة الروسية.. مع أن أحدا لم يذكر من قبل أن تلك الأسلحة تشكل أى خطر على إسرائيل ولا أن الجزائر فى حالة حرب مع إسرائيل.
و.. أليس لافتا بعد هذا كله أن إسرائيل تريد تحت غطاء المفاوضات أن تحصل من العرب على ما عجزت عنه عبر كل غزواتها وحروبها ضد العرب؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة