فى بيتنا الصغير الهادئ، قبل ثلاثين سنة، كنت أسمع أمى تقول: يا أولادى.. إن بيت المهمل يُصاب بالخراب قبل بيت الظالم، إذ كانت تردد تلك المقولة وهى تُدير شئون بيتها بمهارة، ومن ورائها أخوات لى يتعلمن فن إدارة البيت بكثير من الانتباه.
ولم تكن أمى حينئذ خبيرة فى شئون الاقتصاد المنزلى، لكنها تعلمت فى جامعة الحياة أن تجعل من فلسفتها فى محاربة الإهمال قانوناً تطبقه على صغير الأشياء وكبيرها، بل لم يكن لديها صغير وكبير، إذ تساوت لديها أهمية القنطار مع أهمية القطمير، فكانت تقول دائماً: إننا لا نُهمل فى الأشياء الكبيرة لأهميتها، ولكن الخراب يجتاح البيوت جراء ما تعانيه من إهمالٍ فى صغائر الأشياء.
يا أولادى، كم من بيوت كانت بالأموال ذاخرة، فلما نخر الإهمال لُبَّها، خوت على عروشها، وخيم الفقر على أجوائها، فتسول أهلها لقمة العيش، بعدما كان الواحد منهم يلقى فى صندوق قمامته ما يطعم عشرات المساكين، والآن يا أولادى، ماذا جرى؟ فقر وبؤس وضنك، يا أولادى: من احترم نعم الله صانته، ومن ضيعها ضيعته.
هذى كلمات أمى، التى لم تنل من التعليم حظاً موفورا، لكنها علمتنا ببساطة مدهشة درسا حياتيا لا يغادر لنا ذاكرة، إذ لم أسمع من أخت لى ذهبت إلى بيت زوجها أنيناً رغم ضيق الحال، ولا أذكر أن طلبت واحدة منهن (سُلفة) لمواجهة الطارئ الذى حل، بل إنى لم أسمع منهن سوى عبارة (الحمد لله مستورة)، يصدح بها لسانهن كلما بادرت بالسؤال عن الأحوال، فى مشهد يجسد حالة القناعة والرضا، كما يبلور حسن إدارة البيت وفقاً للنصيحة المغروسة بيدى أمى الحانية.
وإنى لأذكر هذا الدرس، وأنا أرى رأسى شبح الإهمال يضرب مخالبه المسمومة فى كثير من مظاهر حياتنا، فى سلوكنا الخاص، وفى سلوكنا العام، وفى بيوتنا، وفى أعمالنا، والنتيجة كوارث لا تخفى على أحد.
يا أيها المدخن لو أنك أطفأت سيجارك بطريقة آمنة، ولم تلقها غير مكترث، ما وقع ذاك الحريق الضخم الذى أتى على الأخضر واليابس.. يا أيها السائق لو أنك فحصت سيارتك بعناية قبل السفر، واحترمت قواعد المرور، ما وقع هذا الحادث المروع الذى سالت دماء ضحاياه أنهاراً على الأسفلت.. يا أيتها السيدة لو أنك أغلقتِ التلفاز والبوتاجاز قبل النوم لمنعتِ مصائبَ وأهوالا، صحيح إن الحذر لا يمنع قدر، ولكن لكل شىء سبب، وديننا علمنا أن نأخذ بالأسباب، وأن نضع الشىء فى موضعه، إذ قال معلم البشرية عليه الصلاة والسلام ( اعقلها وتوكل).
ملحوظة: أمى لم تكن تتحدث الفصحى، ولكن كانت تخط بأقوالها العفوية ما يعجز اللفظ عن إيضاحه وبيانه، وما فات من كلمات ليس سوى محاولة متواضعة منى لبيان أحد دروسها الكثيرة!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة