كانت إحدى المرات النادرة التى يبكى فيها الرجل أمام الناس، ولعل منتقديه حينها لم يعطوه حقه كاملا من الحياد.. هكذا كان المشهد الذى يتصدره الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر فى افتتاح معهد دينى بسوهاج، وعلق حينئذ على شعوره بقوله: «لأول مرة فى حياتى أرى هذا الجمع الغفير فى افتتاح معهد أزهرى وإننى أرى فى وجوهكم جميعا النعيم».. حينها كان الشعور بالدهشة أكثر من الشعور بالتأثر، فالرجل كان خارجا لتوه من معركة الصورة التى جمعت بينه وبين الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز، ودخل معركة أخرى حينما قال فى سوهاج أيضا إن «البهائية كُفر» وذلك تعليقا على قيام بعض المسلمين بحرق منازل البهائيين فى قرية الشورانية بسوهاج.
من معركة إلى معركة ينتقل الرجل دون أن يدرى، فرغم كل ما عاناه بسبب مصافحته لبيريز، عاد ليتصدر المشهد أيضا بصورته جالسا معه على منصة واحدة فى كازاخستان، وأمر كهذا جعل تساؤلات كثيرة تتداعى أمام المهتمين بتصرفاته، كما أنه منح لمنتقديه مادة جيدة لإعادة الكرة بالهجوم عليه، وهم على كثرتهم فإن مطالبهم مشتركة رغم اختلافهم، فهناك الإخوان والسلفيون والعلمانيون وحتى من بين الأزهريين أنفسهم، وهؤلاء جميعهم يبحثون عن تبرير لتصريحاته ومواقفه المختلفة والصادمة أحيانا.. رغم أنه قد أعطى التبرير مقدما بعد أزمة المصافحة، حيث قال: «الجبان فقط هو من يخشى مواجهة عدوه».. ولعل هذا التبرير الاستباقى هو ما جعل الهجوم عليه فى المرة الأخيرة أقل وطأة من ذى قبل.
وبالعودة إلى منتقدى شيخ الأزهر نجد أن الإخوان على سبيل المثال يصرون مرارا وتكرارا على المطالبة بإقالة شيخ الأزهر، وعودة نظام اختياره عن طريق الانتخاب وليس التعيين، مستندين إلى مخالفته لهم فى المواقف.. فالرجل يطالب بالهدوء فى تناول بعض القضايا والعودة للمتخصصين، مثلما حدث فى تناوله لقضية حرب غزة، ومؤخرا قانون زراعة الأعضاء، بينما هم يكونون انفعاليون أحيانا، معارضون دائما، يتهمونه بأنه أهان الأزهر ومكانته وأضاع هيبته بمواقفه، ويرونه فى صورة الشيخ الموظف الذى يحتكم إلى قاعدة «وجوب طاعة ولى الأمر».. وهم بذلك ينحون بخلافهم معه منحى سياسيا.. بينما هو، وكما أكد كثير ممن اقتربوا منه، أنه ليس السياسى الجيد، فإن كان يجيد المناورة فى الفتوى فلا يستطيع أن يفعل فى السياسة، التى يكون أقصى علمه فيها هو الحديث فى رءوس المواضيع مثلما علق ذات مرة على ما يحدث فى العراق بقوله: «النكبة التى تتعرض لها الأمة العربية والإسلامية من داخلها ستكون أشد فتكا من تلك القادمة من خارجها، وحال الأمة تدمى له القلوب، فالوضع فى العراق فى تدهور مستمر لأن العراقيين يقتلون بأيدٍ عراقية».
أما السلفيون فالأمر مختلف بالنسبة لهم، فإن الكثير منهم لديه انطباع عام بأن طنطاوى يعطى الدنية فى دينه بفتاواه التى لا ترضيهم، ففى الوقت الذى يريدون فيه الفتوى قاطعة مانعة فى أمر من الأمور، يخرج هو ليعطى فى فتواه مساحة لليسر، وهذا هو سبب اتهامهم له بأنه يُرضى من وضعه فى المنصب على حساب دين الله، ومؤيدوه يرونها فتاوى تقدمية تجمع بين الالتزام بالنص والتفكير بالعقل والاجتهاد بالخبرة، وهذا تكرر كثيرا فى فتواه بخصوص فوائد البنوك والختان وحجاب المسلمة فى الدولة غير المسلمة، وزاد من حدة الأمر أنه طالب أكثر من مرة بعدم الدعاء على اليهود والأمريكان والاكتفاء فقط بالدعوة لهم بالهداية وإن لزم الأمر -والحديث لطنطاوى- ممكن أن نقول «اللهم انصرنا على القوم الكافرين» دون تسميتهم.. بينما السلفيون يعتقدون جيدا فى قاعدة «الولاء والبراء» من غير المسلمين.
وبخلاف أصحاب التوجه الدينى فإن مواقف بعض المثقفين والعلمانيين والسياسيين تتولى الهجوم على الشيخ بسبب ما يسمونه «الطاعة العمياء» فهم يريدون منه أن يجاهر بانتقاده لأوضاع سياسية يرونها مغلوطة، بينما يرى هو دائما أنها ليست من اختصاصه، وذروة هذا الهجوم كانت بسبب رفضه الاحتجاجات والمظاهرات بوصفها عملا لا يعرفه الإسلام، ربما يكون الشيخ هنا قد خاض فيما لا يعنيه، إلا أن كثيرا منهم يضعونه فى قائمة «شيوخ السلطة» وهى التهمة الجاهزة لكل من يخالفهم الرأى من رجال الدين، بينما يتجاهلون إذا ما كانت فعلا هذه هى إمكانيات الرجل وقناعاته.
وخلال الـ 13 عاما التى قضاها الرجل منذ توليه المنصب عام 1996 وحتى الآن كانت كلمة «إسرائيل» هى الصداع الدائم فى رأس شيخ الأزهر، فقد تحدث كثيرا عن أن الجهاد ضدها هو فرض كفاية وليس فرض عين، وبالتالى لا يمكن لأى شخص أن يعبر الحدود ليقاتلها بمبادرة من نفسه، وهو الرأى الذى اعتبره البعض «تمييعا» لفكرة الجهاد ونواة لضياع القضية دينيا، حتى إن المصادفة أعطت منتقديه فرصة ذهبية بأن اكتشفوا أن رسالة الدكتوراه التى حصل عليها كانت عن «بنى إسرائيل فى القرآن والسنة النبوية» وتطرق فيها إلى مسألة تحريف اليهود للتوراة، إلا أن كثرة المواقف التى أبداها الرجل فى هذا الأمر تدعو للحيرة فالرجل بعد عام من تولى المنصب استقبل حاخامات يهود فى مكتبه بمشيخة الأزهر، وهى كانت واقعة أثارت سجالا حاميا بينه وبين بعض المفكرين ورجال الدين، وفسره حينئذ بقوله «إن الأزهر مؤسسة للدعوة وليس مؤسسة للتجارة أو السمسرة وإلى أن يشاء الله سيبقى حاملا للواء الدعوة بالحسنى فاتحا ذراعيه لكل من يطرق بابه، ولقائى بالحاخام اليهودى كان عاديا جدا فى هذا الإطار، لكن البعض يصعب عليهم الفصل بين الأزهر كمؤسسة للدعوة ومؤسسات الحكم، وما يجب أن يتعلمه هؤلاء أن قفل الأبواب لم يعد يجدى»، وهو ما زاد من إصراره على المشاركة فى كل مؤتمرات حوار الأديان التى يُدعى إليها، وإن كان بها يهود، وهو الأمر الذى فسره بعض مؤيديه بأنه «شجاعة» يحسد عليها، وانفتاح منه لا يلام عليه.. إلا أن أحدا ممن هاجموه بسبب هذه المواقف لم يلتمس له هذا العذر أبدا، فهم لم يقبلوا أبدا بالتفسير الذى يقوله بأن اليهود، خاصة الإسرائيليين، يتهموننا بالخوف من مواجهتهم والانسحاب أمامهم فى اى لقاء يجمعنا، فلماذا لا نثبت لهم أننا أيضا دعاة سلام ولا نرفض اليد التى تمد إلينا به؟!».
وسواء كان الاختلاف مع شيخ الأزهر، فكرا لا مكانة، فإن الإجماع عليه يعد أمرا صعبا فى ظل مناخ يعلو فيه صوت النقد على أصوات الإشادة فهاهو الرجل مؤخرا قد طالب بالقصاص لمروة الشربينى شهيدة الحجاب، إلا أن أحدا لم يبرز هذا الرأى، واكتفى من يطالبون بدم مروة بأن يتهموا الأزهر بالضعف، والتهاون فى حقوق المسلمين، وهى تهمة يصعب إثباتها أو نفيها على السواء.
لمعلوماتك...
◄28 أكتوبر 1928 ولد فضيلته بقرية سليم الشرقية مركز طما محافظة سوهاج