د. خالد عزب يكتب عن موريتانيا بلد المليون شاعر

الأربعاء، 15 يوليو 2009 09:31 م
د. خالد عزب يكتب عن موريتانيا بلد المليون شاعر د. خالد عزب

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
موريتانيا بلد المليون شاعر، قلما توافرت دراسات نقدية عن أدبها وأدبائها، و يجىء هذا الكتاب بين أيدينا ليرسم خارطة للشعر الموريتانى المعاصر منذ الإرهاصات الأولى لتحولاته دالاً ومدلولاً وانحرافه الأول عن مسار بنية النص وأجروميته التقليدية التى تحيل عليها فى ذهن القارئ مقولة (المليون شاعر، حدد الناقد محمد ولد عبدى إطاراً زمنياً لدراسته غير المسبوقة هذه الفترة الممتدة من العام 1946 إلى 1996."

قسم الناقد الشعر الموريتانى إلى عدة اتجاهات رئيسية بدأها بالاتجاه الكلاسيكى، ويذكر فى هذا السياق أن مصطلح كلاسيكى يستخدم للتدليل على كل ما هو قديم متوارث فالشعر القديم هو كلاسيكى من اتباع القواعد الواعية واللاواعية التى كرست وقدست ولم يكن ثمة مندوبة عنها، فى هذا الاتجاه فئتان فى موريتانيا، الأولى الكلاسيكية السننية، وذلك لاتباعها سنن الشعر العربى القديم لغة بلغة وبناء ببناء، ومن أبرز شعراء هذه الفئة المختار بن حامد. أما الفئة الثانية فيها الكلاسيكية الجديدة التى ولدت بعد الاستقلال العام 1960 وما صاحبها من تحولات سياسية واجتماعية، سعى شعراء هذه الفئة إلى تجاوز سابقيهم دون أن يخرجوا عن أسوار الكلاسيكية كاتجاه وعن قوالبها الصورية الصارمة، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه ( سالم عبد الودود، محمد الحنشى ولد صالح، الشيبانى ولد محمد) خرج الشعر الموريتانى على يد هؤلاء من شرنقة التقليد ليتنفس رياح مستجدات عصره واستلهموا شعر المدرسة الإحيائية فى المشرق وروادها أحمد شوقى وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافى، انتقل الشعر الموريتانى من أسر الوصف الاستاتيكى الثابت فى المكان إلى فضاء السرد المتحرك فى الزمان، وانتقل من التشبيه المقيم مسافة بين الذات وموضوعها إلى الاستعارة التى تصهرهما فى وحدة تركيبية واحدة، كما أنه ارتاد معجماً لغوياً جديداً أملته الطبيعة .

كل ذلك أحدث استجابة لنقله نوعيه حدثت فى الوعى الشعبى. خاصة تجاه تواصله مع الأقطار العربية:


يقول الشيبانى ولد محمد عن زيارته للبنان العام 1956 :
يا زائر الشرق هذى أرض لبنان
تختال فى حلتى روح وريحان
كم زائر يستجلى محاسنها
فامتع الطرف منها كل فتان

أما الاتجاه الثانى فى الشعر الموريتانى فسماه المؤلف الاتجاه التسجيلى الشاهد، قصد به مجموعة من الشعراء الذين اتخذوا التسجيل كأداة فنية، والشهادة موقفاً سياسياً وفكرياً مضاداً لأيدلوجية النظام وشرائط القهر والظلم الاجتماعى، وشعراء هذا الاتجاه ولدوا فى أحضان الحركة الديمقراطية الوطنية التى عرفت باسم الكادحين، وظلوا يسيرون فى فلكها رؤية وأداة تعبير، فمنهم من اعتزل الكتابة الشعرية بمجرد أن اعتزلت هى نفسها النضال السياسى، و منهم من استمر فى العطاء مع تخل عن الرؤية الفكرية وتطور فى الأدوات التعبيرية، من أبرز شعراء هذا الاتجاه محمد فاضل ولد الداة، أحمد ولد عبد القادر، محمد المصطفى، وأحمد باب. و يقوم مضمون شعرهم على الشهادة المضادة لكل أساليب القهر السياسى، فهذا أحمد بابا يسجل أحداث عمال ميفارما فى ازويرات عام 1968 بقوله :
قف بالبطاح زميلى
زر مسقط الشهداء
قف بالبطاح زميلى
تسمع عويل النساء
تبدو لفة هذا النص مباشرة لما تريد قوله، فلم تخرج دلالتها السياقية عن دائرة دلالتها التواضعية، إنها مكرسة لتوصيل الرسالة، لتوصيل الشهادة المضادة .

تبلورت نبرة هذا الاتجاه فى فضاءات الشعر المعبرة عن السخط والرغبة فى إنقاذ المستضعفين، فهذا أحمد ولد عبد القادر فى قصيدة بعنوان (نشيد العمال) يقول :
ضحايا الشقا، يا ضحايا الفساد
يعم الفساد جميع البلاد
نهوضا لنطق حكم الفساد
فماذا نقول وماذا نريد
نريد الحياة بلا ظالمين

ارتاد أصحاب هذا الاتجاه وللمرة الأولى فى الشعر الموريتانى شعر التفعيلة، وتلك أسبقية تاريخية تسجل لهم، ومن أهم خصائص شعر هذا الاتجاه، والاعتماد على البعد الحوارى القصصى، حضور المرجع الخارجى بصورة تغيب الأنا الشاعرة، الاحتفاظ بالحقل المعجمى نفسه، وكذا بالمناخ الشعرى.

أما ثالث الاتجاهات فهو الاسترجاع المستشهد، ويعنى المؤلف به مجموعة من الشعراء تقوم بنيتهم التفكيرية من الناحية الأيدلوجية على استرجاع الماضى والتشبث به عقديا إدانة الحاضر المتدنى من خلاله وتأسيس المستقبل الحلم به من حيث هو كامن فيه، يمثل هذا الاتجاه مجموعة من الشعراء يتفاوتون عمراً وتجربة وإبداعاً ويتحدون استرجاعاً واستشهاداً وتمتد تجربتهم الشعرية من السبعينات وحتى الآن، ومن شعرائهم الخليل النحوى محمد سالم، محمد الأمين، فاضل أمين .

أكثر الآليات انتشارا فى شعر هذا الاتجاه، التضمين، الذى يعرفه البلاغيون بأنه استعارتك الأنصاف والأبيات من غيرك وإدخالك إياها فى أثناء أبيات قصيدتك، وكذلك التناص الشعرى. فلا تكاد تسمع أو تقرأ نصا من نصوص شعر هذا الاتجاه حتى يصعد إلى سطح وعيك نص يماثله فى التراث أو يشابهه فى التجربة الشعرية العربية المعاصرة، وإن لم تقتض له نموذجاً محدداً فى مخزون الذاكرة فأدنى أمر تحسبك سمعته من قبل أو قرأته .

أما الخصائص الفنية والبؤر الضوئية لهذا الاتجاه، فتتمثل فى تعدد البنى الشعرية، طغيان النبرة الخطابية، سيطرة البعد الموضوعى وغياب الذات الشاعرة، النهايات المتفائلة. وعلى الرغم من بنية الاسترجاع والاستشهاد هذه وما رافقها من ظواهر فقد استطاع شعراء هذا الاتجاه بذر بؤر فنية جوهرية لو طورت، وأخرجت من طور الكمون إلى الظهور ومن الندرة إلى الاطراد لدفعت بتجربتهم إلى تخوم إبداعية بعيدة
وهذه البؤر هى التعبير بالتراث. فلقد استطاع شعراء هذا الاتجاه الانتقال من مرحلة التعبير عن التراث التى وقفت عندها الكلاسيكية السننية إلى مرحلة التعبير به واتخاذه طريقه لتصريف المعانى والأفكار، الابتعاد عن المباشرة فى تسجيل الواقع، وخلخلة لغة الشعر، فعلى الرغم من حرصهم الشديد على السلامة اللغوية، والتمسك بعرى الجملة العربية التقليدية إلا أنهم استطاعوا خلخلة بعض الثوابت فارتادوا التقديم والتأخير والفصل بين متلازمين بجملة اعتراضيه ..إلخ. تعدد الأصوات فى النص الشعرى الواحد وهى خاصية تكسب القصيدة بعداً درامياً، هكذا تتبين بنية هذا الاتجاه استرجاعاً و استشهادا .

أما آخر اتجاهات الشعر فى رأى المؤلف، الاتجاه الاستشرافى الحداثى، وهو يعن بهذا الاتجاه مجموعة كبيرة من لا يكادون يتفقون إلا فى أوجه الاختلاف، ومنهم من بدأ الشعر مرحلة التعدد والتنوع الامتناهى، من أبرز شعراء هذا الاتجاه. إبراهيم ولد عبد الله، ببها ولد بديوه، محمد ولد الطالب، خديجة بنت عبد الحى.


أعلنت هذه الأصوات الشعرية عن نفسها فى عقد الثمانينات وبداية التسعينات، وهى حقبة شهدت فيها البلاد تحولات سياسية متلاحقة وهزات اجتماعية متسارعة، ولدت مع هذا الاتجاه عدة ظواهر ذات أهمية كبيرة ودلالة عميقة، منه على سبيل المثال: ميلاد أصوات شعرية نسائية، انكسار مركزية الشعر، ميلاد السرد وتطوره فى الشعر الموريتانى. وتعددت أساليب هؤلاء الشعراء، يكاد يكون أبرزها التيه ومشتقاته الأكثر انتشاراً و اطرادا فى نصوص شعراء هذا الاتجاه فمن عتبات قصائدهم يبرز لك جلياً التيه ينادى على نفسه فعناوين مثل، التيه، سنوات التيه، تيه المراكب، الرحيل، تعكس لك بشكل جلى مدى عنف حضور هذه التيمة فى تجربتهم أما لو تجاوزت العتبات ودخلت فى عوالم النصوص فإنك ستتيه فى التيه حتى ليخيل إليك إن كل ما فى واقعهم تائه الإنسان, الأرض, التاريخ . يقول محمد فال فى قصيدته عهد الوبر :
تائهون من الممات
إلى الحـياة
ومن الحياة إلى الممات
والتيه يقتلع الجــذور

يقددنا هذا إلى اليأس المتفشى فى شعرهم وكذلك الحزن، هناك عدد من الظواهر المعنوية التى رصدها المؤلف لدى شعراء هذا الاتجاه، منها مركزية الأنا فى التجربة سواء تجلت من خلال ضمير المتكلم المفرد أم الجمعى، مما يعكس أن صوت الذات لم يعد يرضى بأن يظل قابعاً فى الخلف متدثراً بالمعادل الموضوعى، يقول أبو شجة فى قصيدته نجوى:- أنا حر والكون عبد من الظلمة يعشى بكل برق لموح

أما الظاهرة الثانية فهى انتقال القصيدة من التعبير عن إحالة إلى التعبير عن حالة. فلم تعد القصيدة صدى لخارج هى تابعة له، لم تعد ظلاً لخطاب مناصرة أو تحريض، لقد أصبحت إذنا حالة أكثر منها دلالة، وأصبحت لأزمة المعنى غير متعدية إلى سواها .

أما عن الظواهر الفنية لدى شعراء هذا الاتجاه فمنها اللغة التى أصبحت تضطلع بوظيفة لما كانت عليه فى الشعر، لقد كانت عند الاتجاهات السابقة عليهم مجرد وسيلة فى الأداء، هنا أصبحت لبنة من لبنات دلالة النص، قيمتها فيما توحى به لا فيما تخبر إخبارا وفيما تولده من أوضاع جديدة لا فيما توضع له فى الأصل. وعند تمعن نصوصهم وخصوصاً التى جاءت على وزن التفعيلة نجد أن اللغة فيها تعمل جاهدة على إعادة تأسيس كيانها وإثبات تفردها وتأصيل خصوصيتها بطرق شتى منها، الصورة التى أصبحت جديدة فى محتواها ومضمونها وأبعادها، كما أصبحت مصدراً لشبكة من الاحتمالات المتعددة يقول ببها ولد بديوه على سبيل التمثيل من قصيدة (سفر المسابر فى ظلام الجرح(.

أمن أليم المنظر المظلوم واجفة جوانحنا ؟
فيا غضب الدم المنهار من شفة إلى شفة
دم الفقراء وهو يراق من قدح إلى قدح
دم الفقراء وهو يطان من مدر على حجر
دم الفقراء مصفوفاً يوزع فى الموائد ساخنا
لملاعق الوزراء و السفراء

لقد جاءت هذه الصورة شديدة التقطير والتكثيف زاخرة بطاقات إيحائية كثيرة منبعثة من فجوات التوتر التى خلقتها العلاقات التراكنية والخيارات الاسبدالية مولدة فى المتلقى حركة درامية تخرج به من التقبل السالب.

والقراءة الخرساء إلى المشاركة الفاعلة والإسهام فى إنتاج المعنى. ومن ظواهر هذا الاتجاه التكرار .

نستطيع أن نرصد لدى شعراء هذا الاتجاه، شعرية القص. فاستثمروا جماليات القص وما تقوم عليه من أساليب وتقنيات ومن ذلك قصائد مرفأ الصمت وعلى باب الكهف لخديجة بنت عبد الحى وتيه المراكب لسيد الأمين، ومن مذكرات مسفر لمباركة بنت البراء، والشريد لببهاولد بديوه.

أما أكثر ما يسترعى الانتباه فى شعر هذا الاتجاه البنية النصية، وإذ كانت بنية النص عند الاتجاهات السابقة مفككة الأوصال وتعتمد فى الغالب انتقالات عشوائية، حسب ما يعلن على الخاطر من أفكار وصور غير منتظمة فإنها عند غالبية شعراء هذا الاتجاه أصبحت تعتمد على النمو العضوى للفكرة وعلى البناء الهرمونى للتجربة، مما جعل نصوصهم قوية اللحمة والبناء، مستفيدة فى ذلك من كل الأبنية المعمارية التى فيها تحققت القصيدة العربية المعاصرة ولعل من أبرزها. البنية الدائرية، وهى بنية تكاد تغطى كثيراً من نصوص هذا الاتجاه، وللتمثيل لها يمكن الرجوع للقصائد التالية . طائر الرعد . تيه المراكب لسيد الأمين . الأعاصير .

المجهول . الرحيل . الأبراق لبدى ولد ابنو . انتظار لمباركة بنت البراء، البنية الحلزونية، وهى البنية التى تكون فيها الرؤية الشعورية الأولى مركزا ً على الدوام لكل انطلاقه إلى آفاق هذه الرؤية فكل وقفة من وقفات القصيدة تبدأ من نقطة الانطلاق الأولى ويدور الشاعر فيها دورة كاملة يستوعب خلالها الأفق الشعرى الذى يتراءى له، ومن أبرز نماذج هذه البنية قصيدة (أسفار العشق والموت لبدى ولد أبنو. البنية المفتوحة، وهى التى يبدأ فيها النص بجملة أو نواة تتناسل شيئا فشيئا وتتمطط إلى أن ينتهى النص وثمة إمكانية للتوالد المستمر ونصوص البنية المفتوحة فى الشعر الموريتانى كثيرة ومتفاوتة.

أخيراً لقد نجح محمد ولد عبدى فى كتابة هذا فى ملء فراغ طالما شكا منه القارئ العربى فى المشرق متمثلا فى جهله التام بأى شىء عن الثقافة والشعر المعاصر فى موريتانيا وسد فراغ عميق فى الساحة الثقافية والشعر المعاصر فى موريتانى.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة