اعترف بأننى كنت قاسيا فى هجومى على الدكتور أحمد مجاهد أمين عام الهيئة العامة لقصور الثقافة حينما كتبت يوم الاثنين، 15 يونيو السابق مقالا بعنوان الهيئة العامة "للطبطبة" قصور الثقافة سابقا وكان هذا المقال اعتراضا على قرار "مجاهد" بعدم إعادة طبع كتاب "المعلم يعقوب بين الحقيقة والخيال" بعد نفاده فى أقل من شهر، تجنبا لإثارة الأقباط وقال لليوم السابع ما نصه: لن أعيد طباعة كتب أغضبت الأقباط" فأحزننى هذا الموقف من مثقف وأكاديمى وكارد ثقافى واعد، ووقتها كتبت عنه "وكأن وظيفته تحتم عليه "الطبطبة" وليس التنوير، الإخفاء وليس الكشف، التعتيم وليس التعليم، المصادرة وليس إفساح الدرب للرأى والرأى الآخر، وكأن تاريخ مصر حكر الأهواء والميول، يفعل به المسئولون ما يشاءون وقتما يشاءون.
وقلت أيضا إن هذا الذبح والتعتيم لا يعود بفائدة على أحد، والآن أقرأ معكم هذه السطور لأكتشف أننى كنت حادا وقاسيا، لكن ما أعرفه عن الدكتور مجاهد من تبينى لمفاهيم السماحة والاستنارة يبرر هذا الهجوم، فقد تخيلت أننا بإزاء تجسيد حى لحالة انسحاب للمثقف لحساب السياسي، تلك الحالة التى اكتوينا بنارها، وعلى أثرها انبهمت الرؤية وضاق الأفق، ورأيت أيضا تكرارا لحالة التنصل من الدور التنويرى الذى يتبناه مثقفينا، تحت ضغط الأصوليين الرجعيين، ولهذا قلت قبل ما زيد على الشهر: كان يجب على الهيئة أن تعيد طباعة الكتاب مع إرفاق الآراء العلمية التى تفند به من مزاعم ـ إن وجدت ـ لكن ما لا أفهمه أن تتنصل مؤسسة ثقافية كبيرة من دورها التنويرى وتتجه إلى الطبطبة" وللحق كان الدكتور "مجاهد" مثلا فى تقبل الآراء حتى المعارضة منها، وعن طريق الخطأ فهم البعض من مقالى أن "مجاهد" صادر الكتاب، ولهذا هاجمه البعض بضراوة، إلا أن "مجاهد" أبى أن يوصم نفسه بهذا الموقف، وآثر ألا ينسحب من المعركة خانعا، فكشف فى الحوار الذى أجراه مع الزميل عمرو رضا ونشرته جريده الجمهورية "أمس السبت" عن جوهره التنويرى، وعن انحيازه للثقافة المصرية، وأمر بإعادة طبع كتاب "المعلم يعقوب" لأحمد حسين الصاوى مع تضمين بعض الكتابات الأخرى التى تحمل وجهات نظر متنوعة حول "يعقوب" وبهذا القرار لا يكفر "مجاهد" عن تصريحه السابق فقط، بل يضيف وجها مشرقا لنموذج المسئول الثقافى الواعي، الذى لا تأخذه العزة بالإثم، فيكابر انتصارا لرأيه بالحق أو بالباطل، ويستمع ويستجيب لآراء معارضيه ومنتقديه، مادام الانتقاد فى محله والاعتراض لوجه الثقافة.
أعتقد أن إعادة طبع "المعلم يعقوب" بهذه الصورة كفيل بأن يهدأ من حالة الاحتقان الطائفى التى تنتاب المجتمع المصرى من حين لآخر، ويبرهن كذلك على عدم سوء النية من المؤسسة الثقافية المصرية، خاصة وقد تمادى البعض "مثل القس عبد المسيح بسيط" فى افتراض نظرية المؤامرة واعتبر أن نشر كتاب "المعلم يعقوب" يعطى مبررا لاتهام أقباط المهجر بالخيانة، وفى هذا مغالطة تاريخية كبيرة، فالمعلم يعقوب لا يمثل الأقباط على الإطلاق، ومن يقرأ كتاب "الصاوى" سيعرف أنه كان "مكروه" على جميع الأصعدة، حتى أن البابا أمر بحرمانه من التناول جزاء لتصرفاته الطائشة، كما سيعرف أن "يعقوب" لم ينفرد بالخيانة ولم يستأثر بها، بل على العكس ضم جيشه مسيحيين آخرين ومسلمين منبوذين وقادة من رموز المماليك، وهكذا يساهم الكتاب فى استجلاء الحقيقة من ناحية ومن ناحية أخرى يعطى كل ذى حق حقه، وكان من الواجب على رجال الدين المسيحى أن يعلنوا براءتهم من "يعقوب" ويتركوه فى ذمة التاريخ ورجاله إلا أنهم رفضوا هذا الحل المتسامح وكأنهم يريدون تصوير المسيحيين وكأنهم ملائكة لا يخطئون، ولا يخونون، والحل الأمثل من وجهة نظرى أن تعلن الكنسية براءتها من "يعقوب" لأنه لم يكن يوما يمثلها، ولم يكن يوما يمثل جموع الأقباط، كما لم يكن خونة المسلمين يمثلونهم، وإذا كان المسيح نفسه تعرض للخيانة على يد أحد أقرب حوارييه، فكيف لا يكون بيننا ألف يهوذا مسيحى أو مسلم أو يهودى أو لا دينى.
البشر ليسوا معصومين من الخطأ ولا السهو ولا النسيان، وفى هذه الخاصية تكمن عبقريتهم، فالخطأ أكبر معلم، وليس عيبا أبدا أن يخطأ الإنسان، لكن العيب ألا يصحح خطأه، وفى نظرى فإن خطأ "مجاهد" وتصحيحه له أكبر فائدة له وللمهتمين بالحركة الثقافية والتاريخية، وبهذا ينتصر لقيم المكاشفة والتنوير التى ننتظرها من مسئولينا الثقافيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة