محمود عوض

ملــف آخـــر للقــــدس

الجمعة، 10 يوليو 2009 12:08 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فيما بين الرابع والرابع عشر من شهر يونيو، تابعنا تطورين لا مفر من مقارنة جزئية بينهما، تابعنا خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما الموجه إلى العالم الإسلامى من القاهرة، وطرح فيه -ضمن قضايا أخرى- خطوطا عريضة من رؤيته لتسوية القضية الفلسطينية، بعدها بعشرة أيام تابعنا خطابا آخر من بنيامين نيتانياهو رئيس حكومة إسرائيل، يطرح فيه رؤية حكومته لنفس القضية.. وهو طرح موجه أساسا إلى الرئيس الأمريكى.

فى هذه المرة سأتوقف فقط عند ورقة واحدة فيما هو مطروح أمريكيا وإسرائيليا، بشأن وضع مدينة القدس فى التسوية النهائية، الرئيس الأمريكى تناول القدس فى سياق من 41 كلمة، قائلا إن فى مقدمة ما يتطلع إليه ضمن أشياء أخرى، هو «عندما تصبح الأرض المقدسة للأديان الثلاثة العظيمة مكانا للسلام الذى أراده الله لها، وعندما تصبح مدينة القدس وطنا دائما لليهود والمسيحيين والمسلمين، والمكان الذى يستطيع فيه جميع أبناء إبراهيم أن يعيشوا فى سلام، كما جاء فى قصة (الإسراء)، ففى هذه القصة قام كل من موسى والمسيح ومحمد عليه السلام وتشاركوا فى الصلاة سويا».

بالمقارنة.. تناول رئيس حكومة إسرائيل سيرة القدس فى خطابه اللاحق من خلال 14 كلمة قال فيها: «.. القدس يجب أن تظل العاصمة الموحدة لإسرائيل، مع حرية دينية مستمرة لكل الأديان».

كلمات الرئيس الأمريكى هى أقرب إلى واعظ يتحدث عن مثل عليا، حيث معنى ومغزى القدس بالنسبة له فى أى تسوية، هو أن يمارس فيها أتباع الأديان الثلاثة حريتهم الدينية، هذا بالضبط يتفق فيه، ويرحب به، رئيس حكومة إسرائيل، بل ويقول إن تلك الحرية الدينية مستمرة الآن فى الوضع الحالى للقدس، لكن ما يشدد عليه رئيس حكومة إسرائيل، وكرره سابقا رؤساء حكومات إسرائيلية، فهو أن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وهو شرط تضعه إسرائيل مسبقا ضمن أى تسوية محتملة.

والعقدة كلها.. هنا. ولنلاحظ مبدئيا أن مساحة القدس التى تحددت أولا فى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الصادر فى 29/11/1947 كان مجرد نصف من واحد بالمائة من مساحة فلسطين، وقتها تحدث القرار عن «حكم دولى خاص بمدينة القدس»، الآن، من خلال غزوات إسرائيل وبرامجها الاستيطانية المتتابعة أصبحت مساحة القدس الكبرى عشرين بالمائة من الضفة الغربية، وبقوة الاحتلال أصبحت القدس محاطة بأحزمة استيطانية تضم مائتى ألف مستوطن، وهو أمر واقع تريد إسرائيل أن تفرضه مقدما ليعترف به الفلسطينيون والعرب والعالم، ضمن أى تسوية.

الرئيس الأمريكى أوباما يعرف ذلك كما عرفه رؤساء سابقون عليه. هو يعرف أيضا أن تناول وضع القدس بمنطق الواعظ الدينى لا محل له من الإعراب, القدس من البداية قضية سياسية، أو بمعنى أدق.. جزء من القضية السياسية المستمرة معنا من البداية، هو لايحتاج هنا إلى اختراع موقف أمريكى جديد، يحتاج فقط إلى الرجوع إلى ملف القدس فى السياسة الأمريكية من البداية.

سأعود هنا فقط إلى غزوة إسرائيل الكبرى فى يونيو 1967، فبتلك الغزوة احتلت إسرائيل القدس الشرقية، لتضيفها إلى القدس الغربية التى كانت قد احتلتها أصلا فى حرب 1948 ولم تعترف أى دولة فى العالم، وفى أى وقت، وبما فى ذلك أمريكا، بالقدس عاصمة لإسرائيل.. لا قبل حرب 1967 ولا بعدها.

نتوقف هنا فقط عند غزوة إسرائيل الكبرى فى 1967 التى خرجت منها إسرائيل بنشوة كبرى من الانسحاق العربى أمامها أسكرتها تماما إلى الحد الذى جعل الكنيست، البرلمان الإسرائيلى، يصوت فى 27/6/1967 على مشروع يخول الحكومة الإسرائيلية بسط سيادتها على القدس الشرقية ويفوضها فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك.

فى ذلك الوقت كان آبا إيبان وزير خارجية إسرائيل يرأس الوفد الإسرائيلى فى المناقشات الجارية بالأمم المتحدة فى نيويورك، سعيا إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولى يضع أساسا لتسوية بين إسرائيل من ناحية، والدول العربية الثلاث التى جرى احتلال أراضيها حينئذ.. وهى مصر والأردن وسوريا، واستشعارا بالعاصفة الدولية التى سيثيرها ضم إسرائيل للقدس الشرقية، اتصل آبا إيبان من نيويورك برئيس حكومته فى إسرائيل ليفى أشكول وقتها، يرجوه تأجيل اتخاذ أى خطوة حكومية لتنفيذ قرار الكنيست حتى لا يؤثر سلبيا على مناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وانضم إليه يومها فى ذلك الرجاء إلياهو بن إليسار ممثل حزب «حيروت» فى الوفد الإسرائيلى وأحد مساعدى مناحيم بيجن المقربين، والذى سيصبح فيما بعد أول سفير لإسرائيل لدى السادات.

ولكن ليفى أشكول لم يأخذ يومها بوجهة نظر وزير خارجيته، وبادرت الحكومة الإسرائيلية فى اليوم التالى إلى تنفيذ قرار الكنيست، وبالطبع أدى ذلك إلى مضاعفات دولية فورية انعكست على مناقشات الأمم المتحدة، هذا بدوره اضطر آرثر جولدبيرج السفير الأمريكى فى الأمم المتحدة إلى تسجيل موقف الولايات المتحدة رسميا بإعلانه فى الرابع من يوليو 1967 حرفيا أنه: «بالنسبة إلى الإجراءات المحددة التى اتخذتها حكومة إسرائيل فى 28 يونيو أود أن أوضح أن الولايات المتحدة لا تقبل، ولا تعترف، بأن الإجراءات الإدارية التى اتخذتها حكومة إسرائيل فى 28 يونيو يمكن اعتبارها الكلمة الأخيرة فى المسألة، ونحن نأسف لاتخاذها، إننا نصر على أن تلك الإجراءات لا يمكن اعتبارها سوى إجراءات مؤقتة، كما أنها لا تقرر مسبقا الموقف النهائى لمدينة القدس».

كان هذا هو الموقف الرسمى الأمريكى فى ظل رئاسة ليندون جونسون نفسه شريك إسرائيل فى غزوة يونيو 1967، وعلى لسان آرثر جولدبيرج ممثل الولايات المتحدة، وهو اليهودى الصهيونى المتطرف فى حماية إسرائيل داخل المنظمة الدولية.

ومرة أخرى تكرر هذا الموقف الرسمى الأمريكى فى 1/6/1969 على لسان مندوب أمريكى آخر فى الأمم المتحدة هو تشارلز يوست، وفى ظل رئيس أمريكى آخر هو ريتشارد نيكسون، ويومها وقف يوست فى مجلس الأمن الدولى ليعلن ويسجل حرفيا: «إن الولايات المتحدة تعتبر أن ذلك الجزء من مدينة القدس الذى أصبح تحت الاحتلال الإسرائيلى فى حرب يونيو هو مثل الأراضى الأخرى التى احتلتها إسرائيل.. أرض محتلة، ومن ثم يخضع لأحكام القانون الدولى».

هكذا كان الموقف الرسمى الأمريكى بالنسبة للقدس الشرقية العربية شديد القطع والوضوح منذ البداية.. مما جعل آبا إيبان يقول فى مذكراته: «كانت غلطتنا الرئيسية فى شأن القدس هى أننا لم ننسق موقفنا مقدما مع الولايات المتحدة، وهى غلطة لم نكررها فى المواضيع الأخرى».

مع ذلك فحينما جرت مفاوضات كامب ديفيد فى 1978 بين مناحيم بيجن والسادات والرئيس الأمريكى جيمى كارتر حرص بيجن على أن يسجل فى رسالته إلى الرئيس الأمريكى أنه: «لى الشرف أن أخبرك يا سيادة الرئيس بأنه فى 28/6/1967 تبنى الكنيست قانونا خلاصته تخويل الحكومة سلطة بسط قانون الدولة وإدارتها وولايتها على أى جزء من أرض إسرائيل كما يحددها المرسوم، وبناء على ذلك القانون قررت حكومة إسرائيل فى يوليو 1967 أن القدس مدينة موحدة غير مقسمة، وعاصمة لدولة إسرائيل».

ومن جانبه سجل الرئيس الأمريكى من جديد موقف بلاده من القدس مؤكدا أنه لا يزال هو الموقف نفسه الذى سبق أن جرى إعلانه على لسان آرثر جولدبيرج وتشارلز يوست.
هناك إذن موقف أمريكى محدد بالنسبة إلى القدس وظل متناسقا فى ظل إدارات متعاقبة، وخلاصته أن القدس الشرقية التى احتلتها إسرائيل فى يونيو 1967 هى أرض محتلة وينطبق عليها ما ينطبق على بقية الأراضى (العربية) المحتلة، وفى مقابل ذلك هناك موقف إسرائيلى يقوم على فرض الأمر الواقع من جانب واحد، أملا فى أن يؤدى ذلك مسبقا إلى استبعاد القدس من أية مفاوضات تالية، وهذا هو بالضبط ما يحاول رئيس حكومة إسرائيل تكراره الآن.

ولكى تكتمل المفارقات أعود إلى الموقف الرسمى الأمريكى الذى أعلنه وسجله جولدبيرج السفير الأمريكى بالأمم المتحدة فى 4/7/1967 بالرفض القاطع لإجراءات إسرائيل بضم القدس الشرقية، كانت نشوة إسرائيل بنتائج غزوتها الكبرى فى يونيو هى الدافع المباشر لتلهفها على ضم القدس الشرقية، لكن إسرائيل تعرف قبل غيرها أن الأساس فى ذلك كان حماية أمريكا لها، فإذا كانت أمريكا تعلن على الملأ رفضها الاعتراف بذلك الإجراء الإسرائيلى فإن إسرائيل ليس أمامها سوى السمع والطاعة.

وهكذا كغطاء للتراجع الإسرائيلى الحاد بعثت إسرائيل فى 10/7/1967 برسالة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة تسجل فيها الحكومة الإسرائيلية أنها: «لا تدعى لنفسها سيطرة منفردة أو مانعة على الأماكن المقدسة للمسيحية والإسلام.. وإننا سنكون مستعدين -ضمن تسوية سلمية- إلى التعبير عن هذا المبدأ فى شكل ملائم»، الرسالة كانت موقعة بالطبع من آبا إيبان وزير خارجية إسرائيل، لكن اللافت فى تلك الرسالة تحديدا أنها حملت أيضا توقيعين آخرين لاثنين من الوزراء هما زايراخ وارفينج ومناحيم بيجن، نعم.. بيجن صقر الصقور وقتها ووزير الدولة فى حينها، وهو الذى يعتبر نيتانياهو واحدا من أتباعه.

لكن حتى لا يصبح هذا التفافا على الموقف الأمريكى وتحويلا للقدس من ملف سياسى إلى ملف دينى، كررت إدارة ريتشارد نيكسون موقفها بوضوح أكبر فيما أعلنه سفيرها بالأمم المتحدة فى 1/6/1969 من أنها تعتبر القدس الشرقية أرضا محتلة مثل باقى الأراضى التى احتلتها إسرائيل.

وفى خطابه بالقاهرة فى 4/6/2009 لم يكن الرئيس الأمريكى باراك أوباما محتاجا إلى اختراع موقف جديد، كان يحتاج فقط إلى التأكيد على موقف أمريكى رسمى ومتكرر وأعلنته إدارات سابقة.. جمهورية وديمقراطية، لم يكن محتاجا أيضا إلى تناول القدس بقاموس الواعظين مختصرا المسـألة فى حرية العبادة، فإسرائيل أول من يرحب بذلك، ويسعدها تماما استدراج البعض بيننا ليتدحرجوا إلى مستوى دعوة المصريين إلى الصلاة فى المسجد الأقصى بمثل ما فعل وزير الأوقاف مؤخرا، فى الواقع إن البابا شنودة كان الأكثر وعيا بأصل القضية فدعا الأقباط إلى عدم الذهاب إلى القدس إلا بعد أن تسترد السيادة العربية عليها، فلنتمنَّ للبابا شنودة سلامة الجسد، ولآخرين سلامة العقل.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة