لا يجتمع أى مثقفين مصريين أو عرب دون أن يمتد حديثهم إلى العولمة، وغالباً ما تشهد اللقاءات الثقافية، رسمية كانت أو حتى على المقاهى، الكثير من الهجوم على العولمة وآثارها الثقافية المدمرة على المجتمعات المحلية، والثقافات الوطنية، التى تتأكل لصالح الثقافة العالمية الكونية التى تنشرها العولمة فى كل أنحاء العالم.
ويبدو أننا أصبحنا نكره العولمة كلمة، بينما نعيش ونمارس تفاصيلها فى كل مفردات حياتنا، فكلمة الرئيس الأمريكى باراك أوباما من جامعة القاهرة تجسد العولمة شكلاً ومضموناً، فالعالم كله اجتمع أمام شاشات التليفزيون لمتابعة تفاصيل الكلمة، وفى هذا تجسيد كبير لشكل العولمة التى تجعل من أى حدث سياسى أو اقتصادى أو رياضى أو فنى محلى أو عالمى يحظى بمتابعة من كل أنحاء الكرة الأرضية.
هذا هو الشكل البسيط للعولمة، حين يجلس البشر من كل الجنسيات والألوان والأعراق والديانات لمتابعة حدث ما، مثل الحرب على العراق أو أفغانستان، أو تداعيات انهيار البورصة الأمريكية، أو مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم، أو افتتاح مهرجان كان السينمائى أو توزيع جوائز أوسكار السينما الأمريكية، أو حتى زيارة رئيس لدولة ما وإلقاء خطاب بها.
والعولمة فى أبسط صورها أيضاً أن يجلس شخص ما فى قرية بشبيش مركز المحلة الكبرى مسقط رأسى أمام جهاز كمبيوتر متصل بشبكة الإنترنت، وعن طريق حساب شخصى فى الفيس بوك، أو الدخول على موقع يوتيوب يصبح فى قلب العالم مطلعاً على أخباره وحكاياته وشائعاته، متنقلاً بين ثقافات مختلفة كان من الصعب مثلاً فى تسعينيات القرن الماضى أن يصل إليها، أو حتى يتواصل مع شخص ما فى قرية أخرى فى صعيد مصر على سبيل المثال.
لكن العولمة ليست فقط إنترنت وتليفزيون وأقمار صناعية وقنوات فضائية، وإنما أصبحت أسلوب حياة، من الأكل الذى نأكله عبر مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية التى تنتشر فى جميع أنحاء العالم، وعبر الأزياء التى ينقلها صناع الموضة من باريس وروما إلى كل أنحاء القرية الكونية، ثم عبر نظام اقصادى شبه واحد من آسيا إلى أوروبا، والأهم من ذلك نمط فى الثقافة العالمية يتجاوز الثقافات المحلية والتتقاليد الخاصة لكل مجتمع، بحيث يصبح سكان العالم متشابهون ليس فى الشكل وإنما فى التفكير والاستهلاك.
أنا شخصياً أحب أدوات العولمة، فهى تسهل على المعرفة، وتنقل الخبر فى نفس اللحظة، فأثناء الاحتلال الفرنسى للجزائر قتل الفرنسيون 50 ألف جزائرى فى يوم واحد، ومع ذلك لم يسمع العالم عن هذه المذبحة إلا بعدها بعدة أشهر، بينما فى حرب غزة شاهد العالم كله الجرائم الإسرائيلية على الهواء مباشرة.
فى المقابل يقول أنصار العولمة، إنها تنتصر لحقوق الإنسان وتؤمن بالتعايش بين الثقافات المختلفة، عبر ما تطلق عليه الأمم المتحدة التنوع الثقافى الخلاق بين البشر والأديان والحضارات والأعراق والثقافات، لكن الغريب أن العولمة فى ممارستها الفعلية هى من يقضى على هذا التنوع، لدرجة أنها تكاد تتحول إلى قالب تضع فيه البشرية، فيخرج الناس متشابهين فى كل شىء!
وإذا كنا لا نستطيع التخلى عن العولمة أو الاستغناء عن أدواتها المعرفية، فإن الهم الأكبر لنا يجب أن يتركز على الحفاظ على الخصوصية المصرية، فقد كان المزيج الاجتماعى الدينى الثقافى فى الشخصية المصرية عنواناً مميزاً لها بين البشر على مدار التاريخ، وإذا لم نحافظ على هذا المزيج، سنفقد الشخصية المصرية التاريخية وتتحول إلى مسخ ليس له لون ولا طعم ولا راحة، وهذا هو التحدى الكبير، الحفاظ على مصريتنا التى تشكلت على مدار أكثر من سبعة آلاف عام حتى أصبحت العولمة خطراً محدقاً عليها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة