تذكرته بملامحه الطيبة وشعره الأشيب ونبرات صوته الشجية وإلقائه الآسر الدافئ الحزين.. نعم هو كل ذلك وأكثر هو الشاعر الراحل المغترب غصبا بلند الحيدرى، من عراقه الخصيب إلى لندن ذهب كشخص غير مرغوب فيه أيام صدام وحزب البعث _ وأحمد الله أنه لم يعاصر الاحتلال أيضا _ كل سلاحه كان قلمه وبه قاوم وهاجم الطغاة فى كل بلد وعصر.. وفى عاصمة الضباب حيث الصقيع والوحدة عاش كأنه ميت فكيف يقوى على البعد عن أرضه وهو الشاعر المرهف.. لم أك أعرفه.. لم أر صورته.. لم أسمعه.. لم أقرأ له ولو صدفة.. لكن فى الثمانينيات وفى معرض القاهرة للكتاب أيام كان معرضا للكتاب بحق.. كان هناك على المنصة.. قدمته الراحلة سميحة غالب بصوتها العذب.. فتقدم وأنشد رائعته: (أنت مدان ياهذا.. وخرجت الليلة.. كانت فى جيبى عشر هويات تسمح لى أن أخرج هذى الليلة.. اسمى بلند بن أكرم.. وأنا من عائلة معروفة.. وأنا لم أقتل أحدا.. لم أسرق أحدا.. وبجيبى عشر هويات تشهد لى.. فلماذا لا أخرج هذى الليلة..)
عند تلك الأبيات لفنا الصمت المهيب فلم نعد نسمع أنفاسنا من الانبهار بالشاعر وشعره وواصل ونحن نترقب: (كان البحر بلا شطآن.. ورصيف الشارع كان.. خلوا إلا من صوت حذائى.. طق.. طق.. طق.. أجمع ظلى فى مصباح حينا.. وأوزعه حينا.. وضحكت لأنى أدركت بأنى أملك ظلى.. وبأنى أقدر على أن أرميه ورائى.. أن أغرقه فى بركة ماء وحل.. أن أسحقه تحت حذائى.. أن أخنقه بين ردائى.. والظل ورائى.. ورائى.. ما أكبر ظلك إنسانا يملك عشر هويات فى بلد فى وطن لا يملك أى هوية.. غنيت.. صفرت.. ضحكت.. ضحكت..
وأحسست أنى أملك كل البحر وكل الليل وكل الأرصفة السوداء.. أنى أجبرها على أن تصغى لى.. أن تصبح جزءا من صوت حذائى.. طق.. طق.. طق.. ومددت يدى مازالت عشر هويات فى جيبى.. هذا اسمى.. هذا رسمى.. هذا ختم مدير الشرطة فى بلدى.. هذا توقيع وزير العدل وقد مد به زهو حز فمى.. وأطاح بسن من أسنانى.. خدش بعضا من عنوانى.. وخشيت على ّ فبلعت لسانى.. ومعى سبع هويات أخرى أقسم لو مر بها جبل أحنى قامته ولقال هى الكبرى.. عن شعرى..عن أدبى.. عن علمى.. عن فنى.. ولأنى أحمل عشر هويات فى جيبى.. غنيت..
صفرت.. صرخت.. ضحكت.. ما أكبر ظلم إنسان يحمل عشر هويات فى عتمة ليل.. عشر هويات فى بلد فى وطن لا يملك أى هوية.. أنا محدثا نفسى: (آه.. دخلنا فى الجد.. بانت لبتها وربنا يستر) فى اليوم التالى كان ببابى شرطيان.. سألانى من أنت؟.. أ بلند بن أرم.. وأنا من عائلة معروفة.. وأنا لم أقتل أحدا.. لم أسرق أحدا.. وبأنى فلماذا؟.. ضحكا منى من كل هوياتى العشر.. ورأيت يدا تومض فى عينى.. تسقط مابين الخيبة والجبن.. أنت مدان ياهذا..ياهذا؟ ماذا فعلا باسمى وبرسمى وبتوقيع وزير العدل.. لم أدر.. لم أدر.. لكنى أدركت بأن هوياتى ماكانت إلا شاهد زور وبأنى سأنام الليلة فى السجن وباسم هوياتى العشر.. ضحكت..
ضحكت.. ضحكت.. فى بلد.. فى وطن لايملك أى هوية.. سيكون مدانا من يملك أى هوية.. مزقها مزقها ياسجانى.. أسحقها أسحقها ياسجانى.. وسمعت خطاه ورائى.. طق. طق.. طق.. كان البحر له.. والليل له.. وجميع الأرصفة السوداء فى هذا البلد...) و..أبكانا بلند ولا يزال يبكينا.. فله الرحمة ولنا الصبر والسلوان!
