الأربعاء 30 مايو نشرت فى "اليوم السابع" مقالا بعنوان "أوباما.. وأم الدنيا"، لا أريد التعليق على المقال وإنما على تعليق من القارئ رؤوف ظريف موسى شقير، المهاجر إلى هولندا منذ 33 عاما، وقد سعدت بشكل شخصى بهذه الرسالة لأننى أعرف رؤوف شخصيا منذ طفولتى قبل أن تتقطع بنا السبل منذ أكثر من 35 عاما. رؤوف هو ابن المرحوم ظريف موسى شقير مسيحى مصرى، كان يعيش فى مدينة الأقصر هو وأسرته، وفى ستينيات القرن الماضى انتقل والدى للعمل بالأقصر فتجاورت أسرتنا مع أسرة ظريف موسى، وجمعت الأسرتين صداقة عائلية امتدت سنوات طويلة.
وفى عام 1963 شعرت والدتى بآلام الوضع فى منتصف الليل، فى هذا التاريخ والتوقيت لم يكن سهلا على العثور على طبيب، فجاء المرحوم ظريف وزوجته وأحضرا راهبات لمساعدة والدتى فى الولادة التى كانت تحتاج لعملية قيصرية، وأصيبت والدتى بحمى النفاس وظلت طريحة الفراش أكثر من 15 يوما، ولأننى وأخوتى كنا أطفالا وغير قادرين على رعاية أمى فقد تكفلت زوجة المرحوم ظريف بهذه المهمة وبرعاية أخى الصغير حديث الولادة. انتهت فترة عمل والدى فى الأقصر وعدنا إلى مسقط رأسنا المحلة الكبرى، لكن ظلت الصداقة قائمة مع أسرة ظريف موسى شقير، لدرجة أنه كان يدعونا لقضاء إجازة نصف العام سنويا فى منزله المكون من عدة طوابق فى مدينة الأقصر، بنفس القدر الذى كان حريصا فيه على زيارتنا عدة مرات كل عام.
أتذكر فى طفولتى جيدا أننا كنا نجلس بالساعات مع جدى ظريف موسى شقير، على كورنيش الأقصر، يحدثنا عن التعايش وعن المشترك بين الأديان وأنها جميعا تقودنا إلى الله، ولا أنسى أبدا أنه كان يحفظ القرآن، ويحرص على أن نحفظه ويشرحه لنا، ويراجع معنا ما فهمناه. رحل ظريف موسى شقير عن الدنيا، كما رحل والدى، وتقطعت بيننا السبل، لكننى سأظل ما حييت أتذكر هذا المسيحى المصرى الطيب الأصيل، الذى يعلو انتماؤه لوطنه وأرضه على الأديان وعلى التعصب لذلك احتفظ بسماحته وعلمنا إياها.
هكذا كانت مصر التى عشتها فى الستينيات والسبعينيات، كلنا مصريون، مسلمون ومسيحيون لا أحد يفتش فى قلوب الناس عن عقائدهم، ولا أحد يبحث عن مواطن الاختلاف، ولا أحد يعلن حروبا غير مقدسة باسم الدين على مخالفيه فى العقيدة، لكن مصر التى عشتها فى طفولتى وصباى، لم تعد هى مصر التى أعيشها الآن. مصر الحالية تتنفس التطرف، وتصحو وتنام على التناحر بين الملسمين والمسيحيين، وتقريبا اختفت فيها كلمة مصرى، ليحل محلها مسلم أم مسيحى، وبينما كان المصريون يبحثون عما يوحدهم ويعلو بوطنهم، أصبحوا يتفنون فى اكتشاف نقاط الخلاف وإشعال الصراعات.. لدرجة أننا أصبحنا نبحث عن نماذج مثل ظريف موسى المسيحى المصرى، ووالدى المسلم المصرى فلا نجدها.
المصريون فى حاجة ماسة الآن وأكثر من أى وقت مضى لإعادة اكتشاف معنى الوطن والوطنية، لا توجد أغلبية دينية أو أقلية، وإنما مصريون فقط، لأن مصر لم تكن موحدة ومتقدمة إلا حينما أبعدت الصراع الدينى، وتوحدت تحت راية الوطنية المصرية، كما حدث فى ثورتى 1919 و1952، ولا أحد ينكر أن التاريخين هما أهم اللحظات الفارقة فى التاريخ المصرى الحديث، حينما طرحت ثورة 1919 شعار الهلال مع الصليب، فانتزع المصريون الكثير من حقوقهم الوطنية لأول مرة، وحينما ساوت ثورة يوليو بين جميع المصريين بغض النظر عن الدين والطبقة الاجتماعية. وحتى يحدث ذلك من جديد سأظل أتذكر ظريف موسى شقير، لكن كم رجل من هذه النوعية وبهذا القدر من الوطنية والسماحة لا يزال يعيش فى مصر؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة