الساعة السادسة مساءً أمام أحد أشهر الأندية الرياضية وأمام البوابة الرئيسية المطلة على نهر النيل، سيارة سوداء فارهة لا يرى من بداخلها بفضل زجاجها الأسود، تقف أمام بوابة النادى وبسرعة ينزل السائق ليفتح الباب الخلفى، فتنزل منه امرأة شابة فى أوائل الثلاثينيات، جميلة، ممشوقة القوام، شعرها الكستنائى حريرى الملمس ينسدل فى هدوء وراحة على كتفيها، عندما تنظر إلى عينيها الواسعتين تتذكر كلمات نزار قبانى "الموج الأزرق فى عينيك ينادينى نحو الأعماق" ترتدى ملابس رياضية بسيطة وأنيقة. وينزل بعدها طفل فى السادسة من عمره يرتدى زى الكاراتيه الأبيض بحزامه البرتقالى.
وعلى الرصيف بجانب بوابة النادى الرئيسية تجلس سيدة فى أوائل الأربعينيات من عمرها ملابسها الرثة تنم عن حالها وبجانبها طفل فى الثانية من عمره، هدوؤه الشديد يلفت النظر ويثير الشفقة. وأمامهما عدة الشوى، شوى الذرة. والسيدة تهوّى على الذرة بمروحة من الريش فى جد وصمت وحولها شابان ينتظران ما يشوى من الذرة لشرائه.
فإذا بالطفل ذى الستة أعوام يتحدث إلى السيدة الشابة فى صوت هادئ وبمنتهى الأدب: "مامى من فضلك عايز ذرة مشوى"
يأتيه الرد بحزم وفى كلمات مقتضبة: "بعد ما تخلص التمرين"
فانصاع الطفل لأمر والدته غير المباشر وهز رأسه بالإيجاب ودخلا النادى وجلست هى على إحدى الطاولات القريبة من ساحة التمرين تشاهد طفلها حتى انتهى من التمرين.
وجاء إليها مبتسما قائلا: "مامى أنا خصلت التمرين خلاص.. هاتجيبيلى ذرة مشوى بقى؟؟"
فابتسمت له ابتسامة هادئة وردت عليه قائلة: "حاضر يا حبيبى.. يالا بينا" وأمسكت يده بحنان متجهة به إلى البوابة الرئيسية.
وعندما خرجا منها اتجها سويا إلى بائعة الذرة المشوى.
وسألتها الأم: "بكام الواحدة؟"
فردت عليها البائعة وهى مازلت تحرك يدها بهمة بالمروحة الريش لتزيد من اشتعال الفحم: "الكوز الكبير بجنيه" وبدى على وجه الأم الشابة الاستنكار وردت عليها:
"مش الواحد كان بنص جنيه الأسبوع إللى فات؟"
رفعت البائعة وجهها إلى الأم قائلة: "أيوة يا ست هانم بس هانعمل إيه الدنيا غلا وكل حاجة غليت.. غصب عنى والله"
ردت عليها الأم فى حزم: "أنا هاخد الواحد بـ 75 قرش.. ماشى؟؟"
ردت البائعة وبؤس الدنيا كله فى عينيها: "ماشى يا ستى.. عايزة كام كوز؟؟"
ردت الأم الشابة بنفس اللهجة: "هاتى واحد.. بس يكون طرى"
هزت البائعة رأسها بالإيجاب وهى تحدث نفسها قائلة :"كل الفصال ده على كوز واحد!!"
انتهت البائعة من مهمتها وأعطت الطفل الذى مد يده قبل والدته كوز الذرة فى يده وهى تدعو له قائلة :"بألف هنا يا ضنايا"
وفتحت السيدة الشابة شنطة يدها وأخرجت منها ورقة مالية بقيمة خمسة جنيهات وأعطتها للبائعة فى يدها وهى تخفيها وهمت بالانصراف فإذا بالبائعة تسألها: "مش هاتستنى تاخدى الباقى يا ست؟؟"
فهمست لها السيدة الشابة فى أدب وهى تنظر إلى الطفل الجالس فى جوارها بهدوء "لأ، خلى الباقى عشان الولد يجيب حاجة حلوة" وانصرفت فى خطوات هادئة متجهة إلى السيارة التى يقف إلى جوارها السائق ممسكا الباب الخلفى وفاتحا إياه فى انتظار ركوب السيدة الشابة وابنها حتى ينطلق إلى المنزل
وركبت الأم والطفل السيارة وهى ما زلت تسمع بوضوح دعوات البائعة لها بالصحة و سعة الرزق.. وتمتمت فى سرها: "اللهم تقبل".
م. رانيا رشاد تكتب:سيدة النادى وبائعة الذرة المشوى
الأحد، 28 يونيو 2009 08:20 م