"الفيروس لا يعرف القدسية" هذه هى الحقيقة الوحيدة التى يتجاهلها كل مسئولى الملف الصحى فى مصر، ويتجاهلها أيضا رجال الدين خاصة هؤلاء القائمين على المؤسسة الدينية الرسمية، فعلى الرغم من اكتشاف أول حالة إصابة بأنفلونزا الخنازير من العائدين من العمرة، إلا أن الجميع يخشى الاقتراب من مجرد الحديث عن إمكانية إصدار فتوى بتأجيل الحج والعمرة هذا العام لحين كبح جماح الفيروس والسيطرة على انتشاره، فلماذا كل هذا الخوف من إصدار فتوى التأجيل.. ولماذا أصبح كل طرف يرميها على الآخر وينتظر رأيه؟
كان الجميع فى البداية يتطلع نحو الأزهر بوصفه المؤسسة الأجدر باتخاذ مثل هذه المبادرة وإصدار فتوى خاصة بالحج والعمرة فى ظل مخاوف من انتشار الوباء، إلا أن الإجابة كانت قاطعة من شيخ الأزهر "ننتظر خطابا رسميا من وزير الصحة يطلب فيه هذه الفتوى"، إلا أن الأيام مرت لتظهر الصحة بمظهر من لا يستطيع التفكير فى اتجاهين، فلا هى استطاعت منع الفيروس من التسلل إلى مصر ولا هى استطاعت أن تحدد مدى خطورته، وإن كان قد وصل إلى مرحلة الخطر أم لا.
وفجأة تحرك وزير الصحة ليطلب من الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية بيان مدى إلزامية تعطيل الحج والعمرة هذا العام، ليرد عليه الأخير بأن الأمر متروك للمتخصصين وهم "منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة"، لتعود المشكلة إلى الدوران مرة أخرى فى حلقة مفرغة بين الأزهر ودار الإفتاء فى الدراسة ووزارة الصحة فى شارع مجلس الشعب، وكأن المسافة بينهما لا تكفى لحسم مسألة مهمة مثل هذه.
وكان الأمل معقودا على الجلسة المرتقبة لمجمع البحوث الإسلامية يوم الخميس الماضى، ليبت فى هذه المسألة، خاصة وأنها الجلسة التى سيحضرها عدد كبير من علماء الأزهر، إلا أن هذه الجلسة أيضا خيبت آمال مؤيدى هذه الفتوى فانتهت الجلسة دون أى ذكر للحج أو العمرة أو أنفلونزا الخنازير، واكتفى الدكتور محمد سيد طنطاوى بالصياح فى وجه الصحفيين بأنه لن يعلق على الجدل الدائر حول هذه المسألة، ويؤكد على تأييده لرأى نقابة الأطباء بعدم وجود ضرورة علمية لإلغاء الحج والعمرة، بل وكأنه ينتظره، راح طنطاوى يلوح برأى النقابة، مرددا "هؤلاء مختصين ورأيهم على عينى وعلى راسى".
بكلام شيخ الأزهر عادت الفتوى لتتفرق دمائها بين الجهات الدينية والطبية مرة أخرى، إلا أن أحد التفسيرات الأكثر تشاؤما رأى أن خوف الجهات المصرية من المبادرة بهذا الأمر يرجع إلى حسابات سياسية واقتصادية مرتبطة مع السعودية، ولعل هذا التفسير استند إلى رأى بعض رجال الدين بأن خطورة الأمر تتوقف على مبادرة السعودية بهذه الفتوى، فهى بلد المشاعر المقدسة وهى التى تحدد متى تمنع الانتقال إليها، أما التفسير الآخر فهو أن وزير الصحة إذا أعطى جوابا حاسما للجهات الدينية حول خطورة المرض، فإنه حينها لن يستطيع أن يتصدى للهجوم الكاسح الذى يلقاه فقد يصل الأمر حينها إلى اتهامه بتعطيل شعيرة إسلامية هامة، أو يتهم بالتهويل من الأمر دون داع، ويتحمل مسئولية الخسائر الاقتصادية لشركات السياحة والعمرة، أو الخسائر النفسية للمواطنين.
الأمر لا يقتصر على وزير الصحة فقط، فالمفتى أيضا كان لديه الإمكانية لكى يقول فتواه صراحة فى هذا الأمر، حيث كان يستطيع أن يثبت ثقله ومكانته بعيدا عن الأزهر أو مجمع البحوث، إلا أنه قطع الطريق على نفسه بأن هذه الفتوى لا تؤخذ منفردة لابد من توحد آراء المجامع الفقهية عليها، وبهذا يدخل معه كل هؤلاء لدائرة المسئولية، واكتفى بأن يكون رأيه استشاريا فى رده على خطاب وزارة الصحة بأن "الذهاب إلى البلدان الموبوءة يعد بمثابة إلقاء النفس فى التهلكة" دون أن يحدد هذه البلدان أو طبيعة الذهاب إليها.
بعد كل هذا الجدل لابد للجهات الأربع التى تتلقف فيما بينها هذا الأمر (وزارة الصحة ونقابة الأطباء والمفتى وشيخ الأزهر)، أن تتحمل كل منها مسئوليتها فى حالة تفاقم الوباء من تزاحم الحج أو العمرة، فحينها لن تقبل المبررات الاقتصادية أو النفسية أو حتى ضروريات المنصب، فالموت أمر إلهى لا ينتظر خاتم النسر.
"الأزهر" يرفضها.. "الإفتاء" تبحث عن الدعم.. "الأطباء" تهون.. و"الصحة" تخشى الخسائر..
"إلغاء الحج والعمرة".. الفتوى الحائرة بين 4 جهات
الجمعة، 26 يونيو 2009 02:57 م
جميعهم تهرب من مسئولية القرار
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة