هل يفرض مجتمع ما شكل فنونه وإبداعات فنانيه؟.. وإلى أى مدى يكون تعبيرهم عن متغيرات وطموحات وهموم أبناء ذلك المجتمع؟.. وهل رصد واقع المجتمع بشكل وثائقى خطابى يفسد الطبخة الدرامية لسينما الناس وفنون الواقع؟.. وهل يحرم ذلك الرصد لواقع المجتمع متعة الفرجة وروعة المشاهدة عند المتلقى مهما بلغت حرفية المخرج فى استخدام المشهيات الحريفة لتتسلل عبر سياق الدراما بشكل غير مفتعل حتى لا تخرج عن مضمون الحكى الدرامى؟.. وهل تبنى موقف تاريخى مسبق عن فترة ما من واقع حياة الناس من قبل صناع الدراما والإلقاء به فى وجه المشاهد وكأنه حقيقة تاريخية عليه أن يقبلها وغير مطلوب أن يحاول مشاركاً فى الحوار باعتباره المعنى بمناقشة هذا الواقع قد ينفى فى النهاية دور الفن الأصيل فى أن يضم المتلقى إلى دائرة الحوار الإنسانية أحياناً والوطنية فى أغلب الأحيان التى من أجلها كان الإبداع الإنسانى؟!.. وهل هناك مبررات درامية كان ينبغى التوقف عندها عند اختيار حكاوى من التراث أو من القصص الدينى مثل حكاية يوسف الصديق مع غدر أخوته واستلهام تفاصيلها؟.. هل يجور أن يترك أصحاب إبداع فنى ما بعض أدوات ذلك الإبداع والاستعانة بأدوات شكل إبداعى آخر يفقد العمل الفنى ماهيته الفنية وهويته الإبداعية.. فعلى سبيل المثال عندما يتم استخدام أدوات فنون مسرحية فى شريط سينمائى عبر الشكل الخطابى قد يحوله إلى فصول واسكتشات مسرحية؟
إنها مجموعة من علامات الاستفهام وغيرها لا يسمح المجال بطرحها أرى أنه يمكن التحاور حول محاورها مع صناع الفيلم الهام "دكان شحاتة" بقيادة المخرج المبدع الشاب خالد يوسف.
لقد شهد الاقتصاد المصرى منذ منتصف السبعينيات تغيراً جوهرياً عبر إعمال شعار التعامل وفق آليات السوق، وهو ما وصف بأنه الانفتاح الاقتصادى أو ما أطلق عليه الكاتب الصحفى الرائع الراحل أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح".. فقد تحولنا بسرعة من إعمال نظام اقتصادى شديد الانغلاق يعتمد على الدعم والحماية للمنتج المصرى فى كل الأحوال بعيداً عن مناخ التنافسية وحرية الاستيراد والتصدير وغيرها من الأنشطة التجارية الحرة.. إلى نظام بات يفرز ملامح مجتمعية تفتح شهية أصحاب التوجهات الفوضوية والعشوائية ليسود فى النهاية مناخ يسمح بفرص متزايدة من الفساد وتراجع معطيات الحياة الكريمة للطبقة الوسطى..
عن تلك المرحلة قدم خالد يوسف فيلمه الأخير "دكان شحاتة"، وصب جام غضبه على تلك المرحلة وتبعاتها التى رأى أنها قد شكلت شرخاً مروعاً فى البيت المصرى والحياة المصرية، وما عاد يفيد من وجهة نظر صناع الفيلم الاستناد إلى رموز الماضى للاحتماء ورتق ثوب الحاضر (صورة عبد الناصر على الحائط لتغطية شرخ حائط بيت وهى ما عادت صالحة بما ترمز لإصلاح ما فسد ليعود البناء لسابق حاله وينذر بخطر التداعى والفناء).
وعن الأمن والأمان يعيش المشاهد حالة من الخوف والقلق مع كل شخوص العمل بداية من الباشا الإقطاعى "عبد العزيز مخيون" الذى جردته الثورة من معظم ممتلكاته، فهو يعيش حالة خوف من عودة الابن الذى يمكن أن يبطش بصديقه بواب وجناينى القصر "محمود حميدة" وأولاده .. وصولاً إلى حجاج الجناينى الذى يخاف بطش أولاده بأخوهم شحاتة "عمرو سعد" وهو الابن المدلل القريب إلى قلبه وهو الولد الطيب المسالم المحب لأخوته مهما حدث، وهو شاب أيضاً يعانى من عدم الأمان، فكل الناس من حوله باستثناء أبوه وأخته ومحبوبته يمنحهم حبه فيبادلونه الحب بالكراهية وتدبير المؤامرات.. إنها حالة من غياب الأمن تعانى منها الأخت الطيبة "غادة عبد الرازق"، والمبدع الرائع كرم "عمرو عبد الجليل" ملاحظ موقف الميكروباصات، حيث يتبدل حاله كل يوم فهو نزيل السجون وأقسام الشرطة وبلطجى الانتخابات والنصاب الذى يبيع كل من حوله يشارك فى هدم حالة الأمان، ولكنه أيضاً يكتوى بنارها..
ورغم توالى مشاهد العنف إلى حد المبالغة فى بعض الأحيان إلا أن دراما تلك المشاهد وما صاحبها من مؤثرات صوتية وألحان وأهازيج قد وجهت رسالة أراها شديدة الأهمية والنجاح فى التحذير من مخاطر زيادة مساحات استخدام العنف يلازم حالة تآكل الطبقة المتوسطة وتعاظم تداعيات البطالة، وانتشار ظواهر أطفال الشوارع وإدمان المخدرات والنصب والاحتيال.
إلا أن الاستعانة بالأشرطة الفيلمية الوثائقية، بالإضافة للشكل الخطابى المباشر خصوصاً من جانب الباشا السابق والثورى الحالى وسرد والإشارة إلى قدر هائل من أحداث الفساد، وانتشار حالة الفوضى وتقلص مساحة الأمان بين الناس فى الشارع، قد حول أجزاء كثيرة من الفيلم إلى اسكتشات أو تقارير مرافقة لبرامج السهرة التليفزيونية المثيرة.. بعضها مقحم ودخيل على الأحداث ولم يتم التمهيد لها درامياً لدمجها فى الأحداث حتى لا يقطع تفاعل المشاهد مع تنامى الحدث تصاعدياً وصولاً إلى حبكة درامية منطقية فى نعومة..
لقد جاءت مشاهد مانشيتات الصحف، وقطع الطريق من جانب المتظاهرين عقب حريق مسرح قصر ثقافة بنى سويف والاقتراب من حدث العبارة السلام وغيرها بمثابة تقارير ملحقة بدراما حكاية تراثية من القصص الدينى بطلها يوسف الصديق وأخوته، ولكن بأبطال سنين عجاف جديدة يتحدثون لغة هى الأقسى والأبشع تأثيراً.
ورغم أن الفيلم يُعد بمثابة منشور سياسى لخلية فى زمن الشيخ إمام والعم نجم لإدانة توجهات اقتصادية واجتماعية، ولكن البطل الزعيم عند خالد يوسف بطل مهزوم فى كل جولاته حتى الموت مكسور، وكأنه يقدم حياته قربانا لحلم الحياة فى أمن وسلام بعد أن تم الإجهاز على حلمه دون أن يقدم بشكل فعلى أى محاولة لبداية التغيير أو نموذج للخطو نحو الأمان المنشود لوطن السلام.
أما عمرو عبد الجليل فإننى أرى أن دوره كان يمثل فى العديد من مشاهد الفيلم الملاذ الوحيد للمشاهد المسكين للترويح والتنفس، بعيدا عن مشاهد حافلة بالسواد وافتقاد أوكسيجين الوجود والحياة مع أبطال العنف.. لقد قدم عبد الجليل نمطا جديدا من الفنان البطل الكاريزمى القابض على أبعاد الدراما.. إن وعيه عند الاستشهاد بالعديد من الأمثال الشعبية المصرية المعروفة بطريقة خاصة جدا، حيث يقوم بتركيبة المثل من مقطعين فى خيارات كوميدية شديدة الطرافة والدلالة (يا بانى فى غير ملكك .. سده واستريح!!) فى إشارة لانفصال البطل الشعبى الحالى عن جذوره وموروثاته التى ما عاد يذكرها!!
فى النهاية لابد من تحية المبدع خالد يوسف والكاتب الذكى، ولكن مع التحذير من الإصابة بالغرور لقاء النجاح الجماهيرى، وأذكره بالإقبال على أفلام هنيدى وسعد الأولى حتى صارت النكتة سخيفة ومكررة ومن ثم كان الانصراف.. نريد لنكتة خالد يوسف أن تبقى ويبقى تأثيرها فى شارع الفن بشكل خاص والشارع المصرى والعربى بشكل عام..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة