كتاب يستعرض..

النظام السورى.. تاريخ من القمع السياسى والفشل الديمقراطى

الثلاثاء، 23 يونيو 2009 04:15 م
النظام السورى.. تاريخ من القمع السياسى والفشل الديمقراطى الكتاب يقدم وصفاً للتطور السياسى فى سوريا

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
خلال عقد التسعينيات برزت المنطقة العربية، ومن ضمنها سوريا، كاستثناء من الموجة العامة للتحول الديمقراطى التى سرت فى العالم منذ نهاية عقد الثمانينيات، وكانت التحولات الخاصة بالأوضاع السياسية والحقوقية الداخلية فى بلدان المنطقة سلبية فى عمومها. خلال العقود الأربعة الماضية، كبرت سوريا كموقع إقليمى وكدور سياسى خارجى، لكن بالنهج الذى سارت عليه الأمور، كنا فى المحصلة أمام خسارة حقيقية مبرمجة لإنسان هذا البلد ولمؤسسات المجتمع كافة.

هذا النهج بدأ مع إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية منذ عام 1963، وترسيخ التضييق على الأحزاب السياسية فى ميثاق "الجبهة الوطنية التقدمية" واحتكار العمل السياسى من حزب البعث، الحزب القائد للدولة والمجتمع، كما جاء فى الدستور الدائم لعام 1973، وتبعية سائر أحزاب الجبهة له وإلغاء المفهوم الديمقراطى للعمل السياسى، ومن ثم تنامت تحت وطأة قوانين التسلطية المتتابعة، فئات اجتماعية مستفيدة مباشرة منها، ومراكز قوى متعددة لها مصالح حقيقية فى بقاء التسلط واستمراره، وطال التهميش كل قطاعات المجتمع التى ارتدت إلى مستوى المتطلبات الدنيا، بعد أن كان "الشأن العام" خبزها وملحها.

بالتالى كنا مع مطلع القرن الواحد والعشرين أمام دولة تعانى أجهزتها ومؤسساتها من التخلف والوهن والشلل، عدا أجهزتها الأمنية المتضخمة التى تحصى على الجماعات والأفراد أنفسهم، فعلى صعيد المؤسسات التمثيلية هناك غياب كامل لحياة برلمانية حقيقية قائمة على سلطات فعلية تشمل فيما تشمل حجب الثقة عن الحكومة، وعلى صعيد المؤسسة القضائية فقد ضربت استقلاليتها، وغاب دور القانون، وتم إيقاف مفعول الضمانات الدستورية من خلال استمرار إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية وإصدار تشريعات استثنائية وقوانين تعطل الحريات العامة أو تحد منها، وتقيد أو حظر عمل النقابات والأحزاب والجمعيات، هذا كله خلق حالة تخلف قانونى فى البلد زاد الأزمة الداخلية عمقاً واتساعاً، أدت هذه السياسة، بالإضافة لما رافقها ولا يزال من أزمة اقتصادية متفاقمة وتحكيم لمقومات المجتمع المدنى، إلى سيادة أزمة عامة فى القيم والتوجهات تمثلت فى الجنوح إلى الخلاص الفردى والعائلى والارتداد إلى حالات من التعصب والانغلاق، وتبخرت قناعات المواطنين بإمكانية احترام الحريات الأساسية وتحصيل الحقوق.

خلال الفترة من 1963ـ2000 تمت عملية تقزيم الحياة السياسية، لتقوم تدريجياً على حزب واحد ولاعب واحد وسيطرة أحادية وشاملة على كل مقومات ونشاطات الحياة المجتمعية والمدنية والإعلامية وغيرها، دون منافسة، أو رقابة على ما يجرى، أو حتى محاسبة الفاسدين والمقصرين.

هذا الحزب، فقد مع الزمن وظيفته السياسية، وتحول إلى هيكل تنظيمى محض، وحول معه مؤسسات الدولة والمجتمع إلى "مساكن" لا تحتوى على أى شكل من أشكال الحياة المنتجة والمثمرة، والتى أعادت صياغة البشر ليكونوا، فى معظمهم، دون طموح وملامح وتمايز، وفى المال أصبحت البلاد أمام مشكلة سياسية ـ أخلاقية ـ إنسانية، تؤكد وتعيد إنتاج نفسها فى كل اللحظات والمجالات، تحولت المؤسسات التعليمية والنقابية مثلاً إلى "مستودعات" تنتج، على الأغلب، أفراداً يملأ حياتهم التخبط الروحى والتوهان الأخلاقى، وتسيطر عليهم حالة من عدم الاكتراث بالمصلحة الوطنية والعمومية، ويعانون ضموراً فى أحاسيسهم ومشاعرهم بجماعية الحياة، ليصبح بالتالى أقصى ما يطلبونه، الستر والأمان ممن بيده الحكم والسلطان، هذا يمكننا من تفسير ظاهرة اللامبالاة السائدة فى مجتمعنا إزاء ما يجرى حوله، والتى مازالت مستمرة حتى الآن، ففى ظاهرة اللامبالاة السائدة فى مجتمعنا إزاء ما يجرى حوله، والتى مازالت مستمرة حتى الآن، ففى الوقت الذى تخرج فيه الملايين فى باريس وبرلين ومدريد معلنة رفضها للحرب على العراق واستنكارها لتعذيب العراقيين على يد جيش الاحتلال الأمريكى، نكاد لا نسمع عن مشاركة سوريا إلا فيما ندر، ولا تغير المسيرات الباهتة والمعلبة التى تقوم بها السلطة بين حين وآخر من ظاهرة اللامبالاة هذه أى شىء.

تصرفت السلطة على مدى تلك العقود، كما لو أن المجتمع وجد ليخدمها، واستغنت عن وظيفتها فى خدمته، وانقطعت الروابط بين الدولة والمجتمع تدريجياً بشكل يتناسب مع زوال مضمونها القانونى ـ العمومى، وشاع مناخ تجريمى اتهامى ـ خاصة بعد محنة الثمانينيات ـ ساهم فى توسيع رقعة الانقسام والتشظى الاجتماعيين.

خلاصة العهد السابق تقول لنا، إذن إن المشكلة بدأت سياسياً، وأدت مع مرور الزمن إلى مجتمع مستقيل، وانتهت إلى أزمة أخلاقية وروحية تطال التكوين النفسى والأخلاقى والفكرى والروحى للفرد، جوهر مشكلتنا إذاً سياسى، ووجهها البارز أو الطافى المشكلة الأخلاقية ـ الإنسانية.

وقبل بدء العهد الجديد بوقت قليل، أطلقت السلطة شعار "محاربة الفساد" الذى انتهى إلى حدود ضيقة، ودون أن تجيب إجابة مخلصة عن السؤال المركزى: من أين جاء هذا الفساد؟.. فى الحقيقة أن كل الخراب الذى عاشته البلاد على مدار أربعة عقود، ولا يزال حاضراً بقوة، ما هو إلا نتاج خيارات سياسية محددة، فى مقدمتها نموذج وأسلوب ممارسة الحكم، والذى يعتبر العمل الأول فى تشكيل أخلاق الناس ووعيهم وسلوكياتهم، فإذا ما كان مفتقداً للحدود الدنيا من احترام حقوق الإنسان وصيانة الحريات الأساسية، فإنه بالضرورة سينتج أفراداً بائسين على جميع المستويات، وإذا ما كان ديمقراطياً، فإنه على العكس، سيؤهل لتخريج الأفراد المبدعين الأحرار.

قراءة فى مسيرة العهد الجديد خلال السنوات الأربع الأولى
بدأ العهد الجديد فى سوريا بخطاب القسم الذى كان حدثاً له دلالاته المهمة، خاصة أنه جاء على لسان أعلى مرجعية سياسية فى سوريا، عندما أعلن الرئيس الجديد فيه عن دعوته لإصلاح الأوضاع فى البلاد، خلال العام الأول انتعشت الآمال بالإصلاح، وبفتح أبواب التغيير، وأخذ المجتمع السورى يحاول الانتظام فى هيئات وجمعيات ومنتديات عديدة بهدف العودة إلى ساحة المشاركة والفعل، فظهرت المنتديات وأنشطة المثقفين والتنظيمات والجمعيات المدنية، حيث أعلن عن بيان الـ99، وبيان الألف، وتبعتهما وثيقة التوافقات الوطنية "نحو عقد اجتماعى"، وكتبت رسائل شخصية لعدد من المثقفين، وعادت لجان الدفاع عن حقوق الإنسان "ل. د.ح" لممارسة نشاطها، وصدر ميثاق الشرف عن الإخوان المسلمين، وأعلن عن تشكيل جمعية حقوق الإنسان فى سوريا، هذه الأنشطة فى جملتها كانت تهدف بشكل أو بآخر إلى إعادة تأهيل وتدريب المجتمع السورى على المشاركة والفعل والتواصل مع العمل العام والتحاور حول حاضر الوطن ومستقبله.

طال الحوار العلنى ضمن الهيئات والمنتديات والجمعيات الآخذة فى التبلور والتشكيل خلال العام الأول، كل القضايا المطروحة على المجتمع السورى من سياسية واقتصادية واجتماعية، إضافة للاستحقاقات الخارجية، وكان شيئاً جديداً ومهماً فى آن واحد أن يسمع العهد الجديد هذا النقد الواسع الذى امتد ليطال جميع جوانب ومناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى سوريا، وترافق ذلك مع مؤشرات إيجابية، كالإفراج عن مئات المعتقلين السياسيين وإغلاق سجن "المزة" الذى أعطى مؤشراً بقرب طى ملف الاعتقال السياسى، وحدث تراجع طفيف فى دور الأجهزة الأمنية واستدعاءاتها الأمنية وتدخلاتها فى الحياة العامة للمجتمع.

إلى جانب ذلك حصلت مجموعة من الإجراءات الاقتصادية البسيطة لتحسين الأحوال المعيشية العامة، وأهمها الزيادة فى الرواتب والأجور "على مراحل" التى لم تقدم كثيراً فى أوضاع الناس على الرغم من وضع السلطة للإصلاح الاقتصادى كأولوية.

خلال العام الأول تابعت الأحزاب السياسية المعارضة، لاسيما فى التجمع الوطنى الديمقراطى، نشاطها وإعلان مطالبها الوطنية والديمقراطية ورؤيتها للإصلاح والتغيير فى سوريا، وهى الرؤية ذاتها التى تمخض عنها الحوار الدائر فى المنتديات والجمعيات المدنية الناشئة، والتى ارتكزت إلى مجموعة من الأسس أو المنطلقات لإعادة المجتمع إلى ساحة المشاركة والفعل، ويأتى على رأسها: إلغاء حالة الطوارئ، ووقف العمل بقوانين الأحكام العرفية، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإطلاق الحريات العامة، وإصلاح الدولة، ومكافحة الفساد والتسبب فى جهازها، هذه الأسس التى تشكل مدخلاً أساسياً لإطلاق صيرورة إصلاح سياسى واقتصادى تدريجى، على الرغم مما تحمل أحزاب المعارضة من جراح عميقة واعتقالات وملاحقات طالتها فى العهد الماضى، إلا أنها جددت دعوتها إلى الحوار الوطنى والمصارحة والمصالحة الوطنية، وأعلنت دعوتها وقناعتها بالإصلاح التدريجى والعمل السلمى والعلنى.

كان تجاوب القوى الوطنية الديمقراطية فى المجتمع، تعبيراً صادقاً عن رغبتها فى طى صفحات سوداء من تاريخ سوريا، شهدنا خلالها لحظات كل التسلط لحمتها والقهر سداها، ساد فيها الفساد والإفساد، والإثراء على حساب الشعب والمال العام، وانتزعت السياسة بشكل تدريجى من المجتمع، وغيب فيها أصحاب الرأى الآخر والضمائر الحية فى الأقبية والسجون، وفرغت وهمشت النقابات والمنظمات والاتحادات من كوادرها ومحتواها السياسى والمطلبى، وبالتالى غيب الشعب، وأبعدت الأجيال الشابة عن القضايا الوطنية والمجتمعية.

هذه الحركة التى شهدتها سوريا خلال هذه الفسحة الزمنية القصيرة، كانت عموماً حركة نخب ومثقفين ورجال تقدموا فى السن، لكنها عبرت عن طيف وطنى ديمقراطى عريض، يسعى لصوغ برنامج تغيير وطنى ديمقراطى، وكانت محاولة جادة للتغيير الوطنى الديمقراطى، الهادئ والتدريجى، العلنى والسلمى، وذلك على الرغم مما اكتنفها من تقصير وسوء تدبير أحياناً. وبينما بدأ أن المجتمع يحاول ممارسة السياسة العامة، من خلال الانتظام فى أطر وهيئات ومؤسسات مدنية، واتساع دائرة المساهمين والمشاركين فى هذه الفعاليات، انبرى رجال السلطة، تخوفاً أو عجزاً، للانقضاض على المكاسب الصغيرة التى تحققت للمجتمع، وأطلق مثقفوها حملة ضارية من التشهير والتهديد، مدعين حرصهم على تاريخ العهد السابق، وعلى نهج العهد الجديد، وكانت النتيجة الطبيعية لحملة التشهير والتهديد، فى مجتمع مازال يحاول أخذ دوره، هى تردد أولئك الذين تجاوبوا مع إشارات العهد الجديد فى التغيير والإصلاح، وتخوف أولئك الذين رأوا فى تلك الإشارات تلبية لمطالبهم واستجابة لقناعاتهم.

فى الوقت الذى أطلقت فيه هذه الحملة، لم يكن لدى السلطة ما تقدمه، إذ غاب عن الساحة السياسية وجود برنامج حقيقى وجاد للتغيير، أو خطة إصلاح واضحة ومعلنة، وعاد من جديد الخطاب الذى يؤكد سلامة أوضاع البلاد والعباد، ليتضح فى سياق تلك الحملة أن الأمور تسير فى طريق إعادة إنتاج النظام السابق بأدوات وأشكال جديدة. وتحت حجج وادعاءات عديدة بدأ التضييق على الحركة الثقافية السياسية الآخذة بالاتساع، وكان الادعاء الأبرز هو تجاوز الحراك الثقافى السياسى للخطوط الحمراء، بغية قطع الطريق أمام اتساع الطيف السياسى الديمقراطى، ومن ثم جاءت اعتقالات شهر سبتمبر 2001 لتوحى بانتكاسة حقيقية وعودة إلى الدولة الأمنية، وأخذ الواقع السورى يتكشف عن عمق المشكلات والمعضلات على مستوى السلطة التى تقف أمام أى مشروع للإصلاح.

وبعد مرور ثلاث سنوات على خطاب القسم، جاء خطاب افتتاح الدور التشريعى الثامن لمجلس الشعب، الذى ثبت أسلوب الحكم وتوجهاته بوضوح، هذه السنوات كانت عامرة بالأحداث على صعيد الداخل السورى، تخللتها حالة من التجاذب والتنابذ بين الأطراف حول نمط وأسلوب الحكم المناسب، إلا أن مصلحتها النهائية كانت لصالح غلبة الخيار المحافظ والمتحكم بمقاليد السلطة والثروة فى البلد، على حساب خيار الإصلاح والتغيير.

مع خطاب القسم، ساد شعور عام بأن مرحلة جديدة على وشك البدء بعد طول انتظار، عنوانها الحرية والانفتاح والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لكن ما بدأ كإرهاصات للتغيير، لم يتبعها ما يؤكدها. لقد جرى التراجع عن وجوب مكافحة الفساد، والتنازل عن مشروع الإصلاح لصالح "التطوير والتحديث" الذى بقى فى حدود استصدار بعض القوانين الإدارية والتقنية التى لا تقدم ولا تؤخر فى نهوض البلد، ولم يصدر قانون للأحزاب السياسية ولم يعدل قانون الانتخابات، ولم يسمح للأحزاب المعارضة بالعمل، ولم يسمح للصحافة بالانطلاق عدا تلك التى تسبح بحمد النظام والحزب الحاكم، ومنعت مؤسسات العمل المدنى والمنظمات والجمعيات من مزاولة عملها ونشاطها، عدا تلك التى تدور فى فلك النظام والحزب الحاكم، ولم ينزع عن صدر المواطنين كابوس سيطرة الأجهزة الأمنية التى تجعل من التعاطى بأى أمر سياسى أو اجتماعى، أو حتى ثقافى، لا يدور فى فلك النظام السائد جريمة تستحق العقاب، تارة باستخدام التعسف القانونى، كما ظهر فى إحالة أربعة عشر ناشطاً فى مدينة حلب للقضاء العسكرى واستصدار أحكام مجحفة وغير قانونية بحقهم، وتارة أخرى بالعنف العارى المباشر والصريح.

مرتكزات السياسة الداخلية خلال السنوات الأولى للعهد الجديد
خلال هذه السنوات، تشكلت ملامح ومرتكزات لسياسة السلطة تعبر بشكل واضح عن التوازنات الموضوعية فى الواقع السورى الحالى، كانت الأرجحية فيها للطرف المحافظ المسئول عن أزمة الوضع الداخلى وأصحاب المصالح المختلفة، وهى الملامح والمرتكزات التى ستؤثر بمجمل التطورات فى الوضع الداخلى السورى مستقبلاً، وهى:

قناعة السلطة بأنه من أجل استمرار المصالح القديمة والنفوذ السابق، لابد من الإبقاء على هياكل الحزب والجهاز الأمنى وجهاز الدولة "بمؤسساتها وجهازها الإعلامى". فقد أدرك أصحاب النفوذ خطر التحولات المقبلة فى البلد، وأعدوا لها العدة واعتبروا أنفسهم رجالاً لكل المراحل، فلم يتزحزحوا عن مواقعهم، ومن ثم عملوا مشتركين "مع تقسيم للعمل" للإبقاء على مصالحهم ومواجهة الدعوات الإصلاحية. هذا التحالف مفهوم ومفسر، إذ أن تشابك المصالح وتعقدها بين أركان النظام يجعل الخلخلة أمراً وارداً فى حال لم تتم عملية التحالف والتنسيق لمواجهة التغيرات الجارية، كما أن الاعتراف بوجود "مشكلات" فى الوضع الاقتصادى تنحصر أسبابها فى "الخلل الإدارى".

ما كان للقوى النافذة بأجهزتها المختلفة أن تعترف حتى بوجود بعض "المشكلات" الاقتصادية، لو لم يصدر الاعتراف بها من قمة الهرم السياسى، خاصة بعد أن مارست هذه القوى وظيفة "التطبيل والتزمير" للوضع القائم طوال العهد السابق، على الرغم من أن الأزمة الاقتصادية كانت تتفاقم منذ عهد طويل ما يقارب السبعين بالمائة من المواطنين، لكن ـ كما يقول لسان هذه الحال من القوى ـ بما أن الاعتراف بوجود الأزمة جاء من الأعلى، فلا بأس إذاً من الاعتراف بها، شريطة ألا تتطرق للجانب السياسى، وهو على ما يبدو، أو كما ظهر فى مناسبات عديدة، شكل من أشكال المسايرة المؤقتة لإعادة القبض على كل المفاصل والعودة بالوضع إلى سابق عهده.

المعالجة الأمنية وحدها لا تكفى، فى ظل التغيرات العالمية الجارية وعصر القنوات الفضائية والإعلام المفتوح، أدركت القوى المهيمنة أن استخدام العنف المجرد، الواضح والمباشر، لم يعد مقبولاً كما كان فى السابق "لكن بالمقابل لا يجوز التخلى عنه بالمطلق"، ولا ضير من البحث عن وسائل أخرى لتحقيق الهدف القائم، أى الضبط والسيطرة.

بالتالى فإن التراجع الجزئى فى دور الأجهزة الأمنية وهيمنتها المباشرة والصريحة ونشرها للرعب والخوف، لم يأت نتيجة تغيير فى القناعات والدور والوظيفة المنوطة بها منذ عقد الثمانينات، بل كان شكلاً من أشكال إعادة رسم وظيفتها لأجل تحسين الصورة فى الخارج، واستيعاب الضغوط الخارجية، ولا بأس فى ذلك طالما أنه بالإمكان الحصول على النتائج نفسها باستخدام وسائل لا تتضمن العنف المباشر الفاضح، لكنها لا تقل عنها من حيث الجدوى فى مصادرة الحريات والضبط والسيطرة، الوسائل هنا متعددة وجاهزة، ولكل حالة طريقة فى المعالجة، فتارة يتم استخدام الآلة الإعلامية البائسة من أجل تشويه الحركة الاجتماعية والثقافية المنادية بالإصلاح والتغيير، وتارة يتم اللجوء لجهاز الحزب لمحاصرة نشاطات تلك الحركة، وتارة أخرى عبر تكليف النقابات المهنية بمهمات أمنية، ودفعها لإصدار العقوبات بحق النشطاء فى المجتمع وحرمانهم من مزاولة مهنهم.

والأخطر من ذلك التعسف باسم القانون المفصل على مقاس أصحاب المصالح، هذا التعسف الذى يجد له منظرين فى دائرة السلطة يرون أن سوريا قد انتقلت فى عهد الرئيس الراحل من اللادولة إلى "الدولة القوية"، وإن كان ذلك قد تم باستخدام العنف العارى المجرد، بل إنه، كما يرون، كان عنفاً ضرورياً، وما كان لسوريا أن تقوى دون هذه المرحلة اللازمة، واليوم يرى هؤلاء المنظرون أيضاً أننا بصدد الانتقال إلى عصر الدولة القوية بالعسف القانونى، وهى أيضاً مرحلة لازمة للانتقال، ربما بعد عقود طويلة، إلى شكل ما من أشكال الديمقراطية، وليس أدل على ذلك من المحاكمات الجائرة لنشطاء المجتمع السورى التى فاقت فى معانيها ودلالاتها ما حدث فى مرحلة الثمانينات، فالعنف ماثل فى الوسيلتين، مع أنه أخطر من الثانية، لأنه يتم باسم القضاء والقانون.

هذا يشير لمفارقة واضحة فى الوضع الداخلى فى سوريا، وهى أنه بينما يحاول المجتمع العودة للسياسة وممارستها كسياسة سلمية وعلنية، فإن القوى المهيمنة تصر على ممارسة السياسة حرباً وعدواناً وعنفاً ضد المجتمع بالاعتقال والسجن والقبضة الحديدية، ويبدو أن هذه القوى لم تتمرس وتتدرب على ممارسة السياسة إلا بهذه الطرق.

الإشارات المتناقضة وسيلة لتشتيت الداعين للمشروع الإصلاحى، فالإشارات المتناقشة هى إحدى الوسائل التى أتقنتها قوى السلطة، وذلك بهدف إعادة تثبيت مصالحها وأوضاعها خلال الفترة الانتقالية بين عهدين، إشارات بالتهديد والوعيد وأخرى بالإصلاح والتجديد، إشارات بالتعسف والمنع وأخرى بالتراخى والسماح، إشارات بالاعتراف بالمعارضة وأخرى بعدم وجودها، إشارات بقبول الرأى الآخر وأخرى بمصادرته.

لعبة الإشارات المتناقضة هى اللعبة التى يقتنيها أصحاب المصالح على جميع الأصعدة فى الفترات الانتقالية، فعندما تريد مخاطبة "الخارج" لديها إشاراتها، وعندما تريد ضبط الداخل فلديها أيضاً إشاراتها. كما أن الإشارات المتناقضة تحاول جعل الداخل مشتتاً إزاء العهد الجديد، وتسعى لمنع تبلور حركة اجتماعية ثقافية سياسية موحدة إزاء أطروحاته وآلياته وممارساته، وتسمح بالاحتفاظ بكل الخيارات واستخدامها حسب الظرف والضرورة، ولسان حال هذه الفئة فى هذه اللحظة السياسية يقول: طالما يمكن تأجيل التغيير والإصلاح فإنه مؤجل، وعندما يصبح الإصلاح ضرورة لا مناص منها نعود إلى إشارات التغيير والإصلاح.

الفصل بين السياستين الداخلية والخارجية فى كل الدول ثمة انسجام وتناغم وتعاضد ما بين السياسة الحكومية فى داخل دولها، وسياستها مع العالم الخارجى فى سوريا الأمر مختلف، فالسياسة الخارجية لا تكتسب توجهاتها ومتانتها من الوضع الداخلى، هذا من جانب، وفى الجانب الآخر تسعى السياسة الداخلية للحد من ضغوطات الخارج والتغييرات العالمية فى فرض أية استحقاقات للتغيير الداخلى إلا بالقدر الذى لا يؤثر على مصالح وامتيازات القوى المهيمنة.

المفارقة الواضحة فى هذا السياق أن السياسة الخارجية السورية تتعامل بالنقد والاستهجان لخطاب المنفذين والأقوياء فى النظام الدولى واحتكامهم للقوة والعنف فى حل المشكلات العالمية، وننكرهم لنداء الضعفاء لحوار الحضارات والمجتمعات، لكن السلطة تعود وتستخدم هذا الميزان فى التعامل مع الداخل، أى رفض الحوار والاحتكار إلى القوة والعنف كآلية وحيدة، السؤال الذى يطرح نفسه على المستويين، الداخلى السورى والخارجى العالمى، هو: إلى متى سيظل طلب الحوار ولغة السلم والسلامة مقصورين على الفئة الضعيفة، وإلى متى تبقى الفئة القوية موصدة آذانها أمام كل دعوة للحوار، فلا تعترف إلا بعضلاتها وبقدرتها على استخدام العنف بكل أشكاله وصوره، المباشر منها وغير المباشر؟

السماح بالنقد المقنن من داخل النظام نفسه: أمام التغييرات الحاصلة وتفاقم الأزمة تجد القوى النافذة أن السبيل لقطع الطريق على تكون معارضة حقيقية ومتبلورة هو باصطناع "معارضة" من داخل النظام "وإفساح المجال لظاهرة محدودة من النقد"، سواء من أحزاب الجبهة أو خارجها: قادرة على التحكم بها وضبطها ورسم حدودها وتوجهاتها، وقادرة على الإبقاء عليها تحت ناظريها.

تقوم هذه "الظاهرة" بأدوار عديدة، فهى إشارة إلى الخارج بإجراء تغييرات داخلية من جهة، وهى بالآلية المرسومة لها، أى كيل المديح وانتقاد الجزئيات فى آن معاً، ستكون وظيفتها غير مؤثرة على الصعيد الاجتماعى والسياسى من جهة أخرى، أما المعارضة الحقيقية الموجودة فى الساحة السورية فيتم إرباكها بشتى الوسائل، مرة بالإشارات المتناقضة، وأخرى بالاستدعاءات الأمنية أو التهديد بالقضاء والقانون، وأخرى بعزلها وعدم السماح لها بالوصول والتعامل مع قطاعات المجتمع المختلفة.

الانتقال من الإصلاح التدريجى إلى التراجع التدريجى، عملت السلطة ضمن خطة مدروسة على تقليم أظافر الإصلاح المطروح والمطلوب، فمن استبعاد الشق السياسى فى الإصلاح أولاً، إلى الانتقال من مفهوم الإصلاح إلى مفهوم التطوير والتحديث ثانياً، وأخيراً إلى إفراغ الأخير من مضمونه عن طريق حصره فى إطار إجراء بعض التعديلات الإدارية، وما تبع ذلك من إعادة شخصنة السلطة وإعادة إلباسها عباءة العهد الماضى، لرفعها إلى مستوى المقدس ومنع مساءلتها ونقدها.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة