اليوم السابع ينشر فصلاً من رواية "ليلة واحدة بس" للشاب إسلام مصباح، والتى تدور فى ليلة رأس السنة وأحلام الشباب التى يتمنون تحقيقها فى العام الجديد، فيبدأون تنفيذ أحلامهم.
10
أبناء الزمن الوغد
يبتلع "سيد" الإهانة اللفظية والتى لا يمكن الرد عليها لأنه لم يسبه فعليا، ولا يمكن أيضا أن يرد عليه بين عماله القادرين على إهانته أكثر وأكثر، بل أنهم قادرون على تحطيم عظامه وتعليقه كالذبيحة على السيخ الحديدى، ولأنه تعود على هذه الإهانات فإنه يبتلع ريقه فى حذر ويدخل إلى المحل، محل طويل عريض حتى أنه يحس بالتضاؤل، ينتقى طاولة بعيدة عن الأعين، وهو يهنئ نفسه بربع الكباب الذى ينتظره، لقد وعد نفسه بهذه الوجبة عند "أبو جبر" منذ شهر مضى، وها هو يبر بوعده لنفسه، وضع اللاب توب والموبايل والمفاتيح على الطاولة، ثم مسح المقعد بمنديل ورقى، وجلس وضم ساقيه فى خجل وهو يأمل أن ينظر إليه أحد العمال، وبينما يطول انتظاره ويطول ولا أحد يعبأ به، حتى بدأت عروق عنقه تنبض غضبا، أخذ يراجع يومه كاملا وهو يهنئ نفسه على القروش التى سيضعها فى المصرف آخر الشهر.. بعد ثلاث سنوات أخرى سيكون بمقدوره البحث عن عروس، بعدها بعامين يمكنه الارتباط والوصول إلى الهدف النهائى لحياته.
يخرج "سيد" من منزله فى تمام السابعة صباحا، ليصل إلى عمله فى تمام الثامنة تقريبا، الرحلة من حلوان إلى مدينة نصر تستلزم الكثير من الوقت، وربع ساعة تأخير فى عمله يعنى خصم ربع يوم، نصف ساعة يعنى نصف يوم، ساعة معناها اليوم كامل، وإذا غاب اليوم فهذا يعنى خصم ثلاثة أيام..
يصل "سيد" إلى عمله ليتركه بعدها بساعة، عمل "سيد" عبارة عن مندوب مبيعات، "سيد" ينتمى إلى قائمة "أبناء الزمن الوغد".. الزمن الوغد الذى جعل دكتوراً صيدليا يعمل كمندوب مبيعات، يدور طوال النهار على المحلات والصيدليات وبيوت التجميل لبيع أشياء لا يعرف كنهها، ولا يعرف فائدتها، وليس لها قيمة حقيقة، يدور سيد فى الشوارع ليبيع مستحضرات التجميل، راتبه الشهرى 150 جنيها، ولكن الدخل الأساسى لهذا العمل هو العمولة، على كل ألف جنيه 2%، أى عشرون جنيها على كل ألف جنيه مبيعات، تمر أيام طوال ولا يستطيع أن يحصل أى عمولة، وتمر أيام ويحصل مبيعات بأرقام فلكية، فكل شىء قابل للزيادة والنقصان.. إن القدر هو المسئول مسئولية كاملة عما يمكن أن يصل إليه "سيد"، ربما رئيس الشركة أو ربما لا شىء، فحياته حياة روتينية يؤدى دوره فيها ببراعة تامة، وهذا الدور ينحصر فى أن لا يكون، مجرد شكل كاريكاتيرى تراه بنصف عين، كل يوم يدور فى الشوارع ويحاول أن يبيع شيئا ما، ما هو؟.. أى شىء .. المهم أن يبيع ويحصل على العمولة.. الفائدة المرجوة من وجود "سيد" تساوى نفس الخسارة من عدم وجوده.. صفر.. خواء داخلى وخارجى.
يدور "سيد" طوال النهار وحتى المغرب، ثم يأخذ ساعة استراحة يقضيها فى أى مكان، قبل أن يعود إلى العمل فلا يغادره إلا بعدما يحصى المبيعات والأرباح والعمولات، والتوصيات والطلبات المستعجلة، أحيانا يعود متأخرا جدا إلى منزله، فينام ساعتين ثم يعود إلى مشواره اليومى، وأحيانا ينتهى عمله مع آذان المغرب مثل هذا اليوم، فيجد نفسه وحيدا فى أحد شوارع القاهرة، ينظر يمينا ويسارا، ثم يرفع رأسه ليتأمل السماء ويلقى نظرة عميقة على وجدانه، فيجد أنه وحيد جدا.. وحيد لدرجة مذهلة، العالم غريب عنه، كل شخص فى عالمه يمشى فى اتجاه مختلف عن الآخر، يحاول أن يجد أى شىء يمكن فعله، لا شىء.. يفكر فى زيارة أحد أصدقائه، لا أصدقاء ولا معارف.. يفكر أنه كائن منقرض لا يجب أن يكون فى هذا العالم، لا أهداف.. لا مهارات.. لا أحلام.. لا اهتمامات.. لا شىء.. يأخذه هذا التفكير لدقيقة يغيب فيها عن العالم.. ثم يفكر فى شىء قد وعد نفسه به من قبل، قميص جديد.. وجبة دسمة.. تمشية عابرة على النيل.. ثم يذهب لينام.. وغدا يوم جديد.
ينتظر "سيد" وينتظر وهو يطمع أن ينظر له أحد العمال المحل، الرائحة الشهية تصيب معدته بالذهول، وتطلب عطفه ورحمته بصرخات طويلة تشبه عواء الكلاب تقطع طيات قلبه، يعتقد أن صراخ معدته قد وصل صوته حتما إلى ميدان التحرير، فينظر يمينا ويسارا منتظرا الفرج، ولكن لا أحد يعيره انتباها وسط هذا الكم الهائل من العائلات والفتيات المثيرات اللائى جئن من أجل كميات محترمة من الأطعمة الدسمة، ويبتلع الإهانة مثلما يبتلع الإهانات طوال النهار والليل، لقد دخل كلية الصيدلة من أجل لقب دكتور، ولكن هذا اللقب تلاشى مع دخوله إلى عالم مندوبى المبيعات، وهذا فى عرف عالمه إهانة ما بعدها إهانة، يدور على بيوت التجميل والصيدليات ليختلف لقبه مع اختلاف الزبون، أحيانا يناديه يا أستاذ أو يا بنى، وفى أحيان يكون يا معلم ويا أسطى، فى بداية عمله كان يصر على تصحيح الخطأ ويقول بتحدى:
-" دكتور.. دكتور سيد".
ثم مع توالى الأيام نسى هذا اللقب، وصار يمثل تراثا عظيما يتندر به أمام أخوته وزملائه فى العمل، فربما تذكر أحدهم هذا اللقب.. الإهانات صارت فى عالمه شيئا عاديا جدا، ففى أيام كثيرة كان يدخل إلى بيوت التجميل ليجلس ساعة أو يزيد دون أن يلتفت إليه أحد، وفى النهاية يطلبون منه أن يفوت عليهم فى الأسبوع القادم لأنهم لا يحتاجون شيئا الآن، يبتلع الإهانة ويعود فى الأسبوع القادم، ليعامل بنفس الطريقة، دون كلمة تحية أو كوب ماء على سبيل الواجب، يدور ويدور فى الشوارع ليتلقى المزيد من الإهانات، ذات مرة غاب سائق السيارة فاضطر أن يقود السيارة بنفسه ويدور فى الشوارع، هذه ليست إهانة، ولكن الإهانة تلقاها من ضابط الشرطة الذى طلب منه رخصته وبطاقته الشخصية، وعندما عرف أنه صيدلى أشار اليه بالنزول وهو يقول :
-" أنزل يا وله"..
ثم فتشه تفتيشا ذاتيا قبل أن يفتش العربة أيضا، وأصر على أخذ علبة كريم منه دون أن يدفع ثمنها، ثم أشار إليه بالرحيل، لم يتحدث "سيد" بكلمة طوال عملية التفتيش والسخرية والإهانة، ولكنه عندما انتهى اليوم وعاد إلى منزله الفقير المتداعى وغرفته القذرة التى ضاقت أكثر وأكثر من الاضطهاد، ظل يبكى بكاء حارا، وفكر أن يصعد على سطح أعلى عمارة يعرفها ويفرد ذراعيه كما يشاهد فى الأفلام العربية ويلقى بنفسه بعد أن يترك قصاصة تقول :
" لقد انتحرت لأنه لا قيمة لى!."
وفى النهاية اتخذ قراره المصيرى بألا يخرج مطلقا على عربة دون سائقها، ولو أضطر لخصم ثلاثة أيام من مرتبه.
ولهذا يصر "سيد" فى أحيان كثيرة على الأجمل وطريقة الصعب، دائما يرتدى البذلة كاملة حتى فى أشد الأيام حرا، اللاب توب فى يده والموبايل أبو كاميرا فى اليد الأخرى، وسلسلة مفاتيح ذهبية تغزى من يراها بالحديث عن شقة الهرم والسيارة بى أم دبليو، وعلبة المناديل الورقية لا تفارق جيبه قط، حتى إن جلس على كرسى فى قمة النظافة، فإنه يخرج علبة المناديل ويمارس دور الرجل النظيف الذى يثير اشمئزازه أى كمية ضئيلة من التراب، ودائما ما يدمج المصطلحات الأجنبية دمجا دون داع أبدا فى حديثه، وعندما تطلب رأيه فى أى شيء، يبدأ فى سرد ذكرياته القديمة عن نفس المشكلة العويصة التى واجهته أيام الكلية، يحاول بكل الطرق أن يحصل على بعض الاحترام المفقود لشخصه ومهنته ولقبه، ولكن فى أماكن مثل محل الكباب، تختفى تلك الشخصية تماما ويعامل كأنما لا وجود له، لذا تصاعدت دماء الغضب من عنقه إلى رأسه.. وأخرج ذلك الصوت المحرج الهامس الذى يعرفه كل نادل فى أى مطعم أو محل أو مقهى فى العالم ولا يعيره أى انتباه :
- " بست.. بست".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة