القطن فى مصر لم يعد الذهب الأبيض الذى يتغنى به الفلاح.. بل أصبح فريسة فى يد حكومة رجال الأعمال، بدأها وزير التجارة والصناعة رشيد محمد رشيد عندما رد على اتهام النواب للحكومة بتسببها فى انهيار صناعة القطن، فجاءت كلماته تعبيراً عن ما يخطط له، واصفاً مستقبل القطن فى مصر بأنه سيتحسن، وأضاف "المستقبل يجب أن لا يكون تكراراً للماضى، فهناك الآن جذب لاستثمارات ضخمة"، طموحات رشيد اصطدمت بواقع تم رفعه لرئيس الوزراء مفاده،"لا توجد أراضٍ لخلق منشآت تجارية فى المحافظات".
إرضاءً لرشيد وحلاً لأزمة عدم وجود أماكن لإقامة المشروعات عليها، أعلن د.أحمد نظيف رئيس الوزراء عن مخطط تطوير العشوائيات بالقاهرة والمحافظات للاستفادة من الأراضى غير المستغلة بها فى مجالات استثمارية قد تدر دخلاً أكبر من تركها مهملة.
هذا الخيط الرفيع تنبه إليه أمين أباظة وزير الزراعة مبكراً ليجعل شركته "العربية لحليج الأقطان"، والتى كان يرأس مجلس إدارتها قبل تعيينه وزيراً للزراعة، تسعى للشراء والاستحواذ على شركات الأقطان الكبرى، فتضخمت مجموعة الشركة العربية لحليج الأقطان خلال السنوات الأخيرة لتضم شركة إيجيبت لحليج لأقطان وشركة أموال العربية للأقطان، والتى تتبعها شركة النيل الحديثة للأقطان والشركة المصرية للغزل والنسيج وشركة النصر للملابس والمنسوجات المعروفة بـ "كابو".
بعد تولى أباظة وزارة الزراعة فى 2005 أصبحت الشركة العربية أكبر شركة لحليج الأقطان، وأصبح يرأس مجلس إدارتها الدكتور هانى علما، الذى أعلن عن مخطط بيع أراضى المحالج وعزمه إنشاء شركة استثمار عقارى للتخلص من الأراضى الزائدة عن الحاجة، صاحب ذلك عرض محلج الشركة العربية بطنطا للبيع بـ 40 مليون جنيه، وهو ما يحقق أرباحاً تقدر بـ 60% فى المتر المربع الواحد.
وفى مارس 2007 وقعت الشركة العربية لحليج الأقطان اتفاقاً مبدئياً لبيع مساحة 29 ألفاً و134 متراً مربعاً من أملاك الشركة بأبو تيج - محافظة أسيوط - بسعر ألف و100 جنيه للمتر، وبإجمالى 32 مليوناً و47 ألفاً و400 جنيه، فى حين تبلغ القيمة الدفترية للأرض مليوناً و331 ألفاً و863 جنيهاً، وفى نفس العام أعلنت الشركة امتلاكها 25.2% أسهما فى شركات تمتلك 4 ملايين و787 ألفاً و716 سهماً فى شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير.
ما يحدث فى أراضى المحالج يصفه عريان نصيف رئيس اتحاد الفلاحين، تحت التأسيس، بأنه جزء من حالة التصفية العامة التى يعانى منها محصول القطن، بكل ما يعنيه ذلك من إهدار لحقوق الفلاحين والعمال ولثروة مصر القومية.
الانقياد لتوجيهات "الصندوق الدولى" و"الهيئة الأمريكية للتنمية" كلها أسباب يعتبرها نصيف أدت لتدهور الحاصلات الزراعية ومنها القطن منذ منتصف السبعينات وحتى الآن، يضاف إليها التصفية الواقعية للحركة التعاونية الزراعية التى كانت تقدم للفلاح القروض الائتمانية أو تسلمه مستلزمات الإنتاج بأسعار مدعومة.
ما سبق جعل القطن يعانى من تكاليف إنتاج شديدة الارتفاع وناتج محصول شديد التدنى، وهو ما جعل وزير الزراعة وفقاً لنصيف يصف التمسك بزراعة القطن بأنه "عيش فى الماضى، وأن أبواب الاستيراد مفتوحة ويمكنها تغطية احتياجاتنا من القطن".
"وزارة الزراعة يجب عليها أن توجه الفلاحين ليزرعوا ما نحتاج لتصنيعه"، قالها محمد المرشدى وكيل غرفة الصناعات النسجية، مشيراً إلى أن انخفاض المساحة المنزرعة بالقطن سيؤثر على المحالج، التى كانت تعتمد فى إنتاجها على القطن المصرى، وهو ما يفتح الباب أمام المصانع لاستيراد الأصناف التى تحتاجها من الخارج، وهو ما يترتب عليه عدم الإقبال على القطن المصرى وتضاؤل مساحته.
كلما تضاءلت مساحة القطن باعت المحالج أرضها، وهو ما جعل الدكتور هانى علما رئيس مجلس إدارة الشركة العربية يعلن فى يوليو 2008 عن أن الأرباح الرأسمالية لبيع أرض وبناء محلج الشركة رقم 1 بدمنهور والبالغ مساحتها 9 آلاف ومائة متر مربع تصل إلى 21 مليون جنيه بواقع 3 آلاف جنيه للمتر المربع، مشيراً إلى أن تكلفة الحقيقية للمتر على الشركة يصل إلى 700 جنيه للمتر.
المكسب المرجو من بيع أرض المحالج يغرى رجال الأعمال لشراء شركات المحالج، وهو ما أكده حسن بلحة عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات النسيجية بقوله "من يشترى شركة محالج الآن يشتريها ليبيع أرضها"، مشيراً إلى أن قلة المحصول تسببت أيضاً فى تقليل ساعات العمل فى المحالج كخطوة أولى تلجأ الشركات بعدها لتصفية العمالة تمهيداً لبيع أرض المحلج غير المستغلة.
المهندس أحمد الليثى وزير الزراعة السابق اعتبر أن تدهور صناعة الحليج تعبر عن التناقص المستمر فى المساحات المنزرعة، فمنذ 40 عاماً كانت مساحة الأراضى المنزرعة بالقطن 2 مليون فدان، وفى خلال العامين الأخيرين تقلصت لتصل إلى 300 فدان فقط.
الليثى يرى، أن هذا التضاؤل فى مساحة القطن تسبب فى وجود محالج قوتها أكبر من حجم القطن المنزرع، ولأن أراضى هذه المحالج تقع فى مناطق مميزة بالمحافظات أصبح من مصلحة أصحاب هذه المحالج تسريح العمالة وتحويل الأراضى إلى مشاريع استثمارية عقارية.
ما سبق يؤكده تصريح وزير الزراعة الحالى المهندس أمين أباظة، الذى طالب بتقليص مساحة الأراضى المنزرعة بالقطن حتى يتمكن الفلاح من رفع سعر قنطار القطن. وهو ما جعلنا نتساءل عن أسباب تدهور زراعة القطن وما نتج عن ذلك من تحول شركات المحالج للعمل فى مجال الاستثمار العقارى، الأمر الذى لم يبرره وزير الزراعة السابق إلا بقوله: "هيه جات على القطن.. حسبنا الله ونعم الوكيل". مشيراً إلى أنه قبل عام 1990 كانت شركات المحالج كلها حكومية، إلا أن الخصخصة جعلت الشركات تلهث وراء الاستحواذ على المحالج، وهو ما يعطى أصحابها الحق فى بيع أراضيها كيفما شاء، والنتيجة "لم تعد لدينا محالج حكومية".
"أى شركة خاصة لا تشترى أو تبيع إلا لتكسب"، قالها النائب زكريا الجناينى عضو لجنة الزراعة بمجلس الشعب، منتقداً تعيين أمين أباظة وزير الزراعة، رغم كونه رئيساً لمجلس إدارة شركة العربية لحليج الأقطان، قائلاً : "لا أعتقد أن وزيراً يجلس على كرسى وزارته ولديه مشروعه الخاص سيصدر قرارات تضر مشروعه، ولكنه سيحاول الاستفادة من منصبه فى توجيه مشروعاته وفقاً لتوجهات المطبخ السياسى".
الجناينى انتقد خصخصة الدولة شركات حليج الأقطان بأسعار وصفها لا تتناسب مع قيمة الأراضى المقامة عليها، قائلاً: "الشركة العربية لحليج الأقطان هى نموذج واضح لاختيار الدولة من يرتب أمور إدارة البلد، وهو يعلم بعدها ماذا سيحدث، فيأتى ببيانات معينة من الوزارات تساعده فى توجيه نشاطاته".
"لا يعنى عدم وجود قطن بيع أراضى المحالج"، هكذا انتقد سعد عبود النائب المستقل ما تقوم به شركات وزير الزراعة بتغيير تخصيص الأراضى من تشوين القطن إلى أنشطة عقارية لتحقيق المزيد من الأرباح، مشيراً إلى أن سياسة بيع الشركات والمنشآت غير المنتجة دون البحث فى أسباب فشلها سيتسبب فى بطالة وتشريد لآلاف الأسر التى تعتمد على هذه المشاريع كمصدر رزق لها، وهو ما يمكن وصفه بغير القانونى.
عبود انتقد تزاوج رأس المال والسلطة، مشيراً إلى وجود لوبى يسيطر على قرارات مجلس الشعب ويوجه القوانين لصالح ثروات الوزراء، أضاف عبود أن ما يردده أباظة من ضرورة تقليل المساحات المنزرعة بالقطن قد يكون له ما يبرره، لكن ليس الحل هو الاعتماد على الاستيراد، لأن ذلك سيتسبب فى توقف صناعات أخرى قائمة على زراعة القطن.
فى النهاية.. مازالت الأسئلة مطروحة حول علاقة المصالح السياسية بمصالح رجال الأعمال؟ ولمصلحة من تم بيع المحالج للقطاع الخاص؟، والتسبب فى تسريح عمالها كنتيجة طبيعية لسياسة وزير الزراعة فى تقليص مساحة الأراضى المنزرعة بالقطن؟، وهو ما أدى لانشغال شركات المحالج بالاستثمار العقارى لأراضى هذه الشركات، وتحويلها إلى أنشطة استثمارية وتجارية تتفق وتوجهات حكومة رجال الأعمال؟.
لمعلوماتك
1963 تأسست الشركة العربية لحليج الأقطان وفقاً للقرار الوزارى رقم 411
حكاية الذهب الأبيض الذى سقط أرضاً بالضربة القاضية من حكومة رجال الأعمال
الأحد، 21 يونيو 2009 04:19 م