يسرى فودة

لأن الأمر يتوقف على نية كل منهما وعلى هوية كل منهما

هويدى والجلاد كلاهما على حق

الخميس، 18 يونيو 2009 08:58 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حتى بعد مرور ثلاثين عاماً على معاهدة «السلام» بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية، لا يزال المجتمع المصرى منقسماً على نفسه حول مدى شرعية تلك المعاهدة، وطبيعة الموقف الذى ينبغى (فى رأى البعض)، أو لا ينبغى (فى رأى البعض الآخر)، أن يتخذه المواطن المصرى- خاصةً إذا كان من المثقفين- من التطبيع مع دولة لا يزال معظم المصريين يعتبرونها العدو الأول، ويزيد الأمر تعقيداً؛ فعلى مدى السنوات القليلة الماضية بدأت تظهر على وجه ما يوصف بالسلام البارد، ملامح مما يمكن أن يقترب من الحرب الباردة. فجأة يجد الصحفيون أنفسهم على خط المواجهة.

فى زيارته الخاطفة للقاهرة قبل نحو أسبوعين، كان لدى الرئيس الأمريكى باراك أوباما بعض الوقت لا يزال، للتأكد من وصول رسالة «خطاب المصالحة» من خلال لقاء سريع مع ثمانية صحفيين ومثقفين من بينهم مصريان: الأستاذ فهمى هويدى، والزميل مجدى الجلاد، الأول، كما يبدو، لما يمثله فى حد ذاته كشخص وكمفكر من تيار فى الشارع المصرى له ثقله واحترامه، والثانى، كما يبدو، لما أحرزه من نجاح مع جريدة «المصرى اليوم» التى يملكها رأس مال خاص والتى صارت فى غضون سنوات قليلة تناطح كبرى المؤسسات الإعلامية التى تملكها الدولة.

لا غرابة حتى هنا، ولا غرابة فى خلو قائمة المدعوين التى أعدها المستشارون الإعلاميون الأمريكيون من اسم الزميل أسامة سرايا، فقط لم تُوجه له دعوة، لا بصفته الشخصية ولا بصفته رئيساً لتحرير كبرى المؤسسات الصحفية فى العالم العربى، وأوسعها انتشاراً فى مصر، ولا غرابة، بالمقابل، حتى فى أن يكون من بين المدعوين إلى هذا المؤتمر الصحفى المصغر على أرض مصر، صحفى من إسرائيل.

ذلك أن المصادر الصحفية، خاصةً على هذا المستوى، تعمل دائماً وفقاً للمثل الإنجليزى الذى يقول إنه «لا غداء دون مقابل»، والمقابل فى هذه الحالة هو أساساً إيصال الرسالة إلى الجمهور المستهدف لتحقيق مصلحة المصدر. هذا المبدأ يدركه الصحفيون الأذكياء المتواضعون الذين يسعون بدورهم إلى تحييد إغراءات الافتتان بالذات (التى تجيد المصادر فنونها اليوم أكثر من ذى قبل)، وتفعيل مسئوليتهم المهنية تجاه جمهورهم.

ومن ثم تتشكل كرة بيضاوية تشبه كرة الرجبى، نتيجة التقاء دائرة مصلحة المصدر من وجهة نظر المصدر، بدائرة مصلحة الجمهور من وجهة نظر الصحفى، وما ينبغى أن يطمئننا حين تبدأ المباراة، على الأقل من الناحية النظرية، أن المصدر مهما بلغت مهارته لا يستطيع اقتناص الكرة من يد الصحفى إلا إذا هربت هى من يد هذا، بعبارة أخرى يقول التعبير الإنجليزى للصحفى: «Its yours to lose، not his to win» أو بتعبيرنا نحن: إذا فاز المصدر، ستكون أنت فى الواقع الذى خسر لا هو الذى فاز.

فإذا حاولنا الدخول إلى عقل المستشارين الإعلاميين الأمريكيين ،سنكتشف أن دعوة صحفى إسرائيلى كانت من وجهة نظرهم ضرورية لأكثر من سبب. أولاً لأن من السذاجة افتراض أن خطاباً أمريكياً لفتح صفحة جديدة مع المسلمين والعرب لا يخص إسرائيل، وثانياً لأن أوباما ضرب بتقاليد السياسة الأمريكية عرض الحائط، عندما أصبح أول رئيس أمريكى يهبط على المنطقة ولا يزور الدولة العبرية، وثالثاً لأن ثمة معاهدة «سلام» وعلاقات «طبيعية» على أية حال تجمع البلدين.

و من وجهة نظر المستشارين أيضاً إلى الطبيعة الاستثنائية للزيارة، كان المدخل إلى اختيار «ممثلين» عن الصحافة المحلية مدخلاً استثنائياً لا تصلح معه دعوة رئيس تحرير المؤسسة الناطقة بلسان الحكومة، ومن ثم جاء اختيار «المصرى اليوم» اختياراً أكثر لياقةً فى إطار المناسبة لجملة من الأسباب، من أهمها أنها أحد رموز الانفتاح الإعلامى والسياسى والاقتصادى، وأنها تتصدى لهموم الشارع المصرى بصورة أكثر واقعية. وتجنباً لأن تؤدى دعوة رئيس تحريرها إلى عزل التيار المحافظ، خاصةً أنه يشكل الشريحة الأساسية من هؤلاء المعنيين بخطاب المصالحة، فإن من الواضح أن المستشارين الأمريكيين رأوا فى شخص الأستاذ فهمى هويدى عاملاً جيداً للتوازن.

يخطئ إذن الزميل مجدى الجلاد، إذا ظن أنه دُعى لشخصه، رغم إيماننا بكفاءته الصحفية النادرة، وتخطئ إذن جريدة «الشروق الجديد»، إذا ظنت أن الأستاذ فهمى هويدى لم يُدع لشخصه، رغم إيماننا بأنها إضافة رصينة إلى المشهد الإعلامى فى مصر، وإنما كان الاختيار فى الحالتين متسقاً مع ما رأى فيه الجانب الأمريكى مصلحةً لوصول رسالته، ومن حق أى جانب، بل من واجبه، أن يفكر بهذه الطريقة، وأن يسعى إلى تفعيلها على أرض الواقع، مثلما هو من حق الصحفى، بل من واجبه، أن يزن هذه الطريقة دائماً على ميزان ضميره الإنسانى والمهنى.

من هذا المنطلق، اعتذر الأستاذ فهمى هويدى فى اللحظات الأخيرة عن عدم حضور اللقاء الصحفى المصغر الذى أعقب الخطاب، عندما علم أن من بين الصحفيين الثمانية المدعوين صحفياً إسرائيلياً، وفيما بعد، أوضح أسبابه ودوافعه وراء هذا الاعتذار، وهى أسباب ودوافع تستحق الاحترام والتقدير، لكنها تركت الزميل مجدى الجلاد، بأثر رجعى، فى موقف لا يُحسد عليه أمام عامة شعب تغلبه العاطفة، وبعض من زملاء المهنة تغلبهم الغيرة الضارة.

مثلما يمكن اتهام الزميل مجدى الجلاد بالعمالة وبالخيانة، يمكن اتهام جريدة «الشروق الجديد» بالرياء وباستدرار لعاب الشارع، وهما اتهامان لا أساس لهما أمام صحفى ناجح له رصيد لا شك فيه من الوطنية والانشغال بهموم المواطن، وجريدة شابة أضافت منذ يومها الأول رصانةً وتؤدةً إلى مشهد صحفى ثرى، لا يزال فى مرحلة انتقالية تقودها العناوين الفضفاضة. والأهم من ذلك أن أياً من مجدى الجلاد أو «الشروق الجديد» لم يكن مقصوداً بهذه الدعوة للأسباب التى أسلفناها.

و فى تقديرنا أن كلاً من هويدى والجلاد تصرف تماماً كما كان ينبغى أن يتصرف، وأن المشكلة الحقيقية كانت ستنشأ إذا تصرف أى منهما بعكس ما تصرف به، ذلك أن الملمح الفكرى الثقافى العَقَدى للأستاذ فهمى هويدى، أعمق وأبرز كثيراً من ملمحه الصحفى، وهذا الملمح الأساسى ملمح لا يقبل الحياد، بعكس الملمح الصحفى (حين يكون أساسياً كما هو فى حالة الزميل مجدى الجلاد) الذى ينبغى كى يكون مهنياً أن يكون محايداً حتى وقلب صاحبه يعتصر ألماً.

أما والأمر كذلك، فإننى أميل إلى موقف الأستاذ فهمى هويدى لكونى مصرياً، وأشكره على هذا الموقف، لكنّ هذا لا يمنعنى من أن أميل إلى موقف الزميل مجدى الجلاد، لكونى صحفياً وأشكره هو أيضاً على هذا الموقف. وعلامة الفارق فى موقف صحفى من هذا النوع واضحة لا لبس فيها، تتلخص فى الهدف الذى من أجله يسعى الصحفى إلى لقاء أحد المصادر التى يمكن جمعها تحت وصف «الخارجة عن النمط» (مثل المجرمين أو الإرهابيين أو الإسرائيليين أو حتى باعة الهوى).

لقد دفعنى عملى الصحفى فى إطار تحقيقات مختلفة إلى السعى إلى لقاء بعض المصادر الإسرائيلية، منها على سبيل المثال، لقاء مع ضابط إسرائيلى شارك فى العدوان على بلادنا عام 1967 استطعنا من خلاله أن ننتزع منه اعترافاً بأنه رأى قائده يفرغ رصاص مسدسه الشخصى فى رؤوس أسرى مصريين مكبلين فى تناقض صارخ مع كل الشرائع السماوية والدنيوية. فهل ينبغى على أى صحفى أن يقدم اعتذاراً لأى أحد عن تمكنه من الحصول على وثيقة قانونية مصورة من هذا النوع، يمكن إضافتها إلى ملف يسعى إلى استعادة حقوق من ماتوا حتى نعيش، ومن أُذلوا حتى تكون لنا كرامة؟

و المفارقة هنا أن مجدى الجلاد لم يسع إلى لقاء أحد، وليس من الإنصاف أن يتحمل مسئولية وجود، مجرد وجود، صحفى إسرائيلى فى نفس القاعة، وحتى إذا كان، فإن علامة الفارق واضحة لا لبس فيها وهى تعتمد على مهنية الصحفى وتمكنه من أدواته والتزامه بواجبه نحو حق جمهوره فى المعرفة، ولا تعتمد على شعارات جوفاء تؤدى إلى تكريس جهلنا بعدو انتصر علينا فى بعض المعارك، لأنه أساساً تعلم لغتنا واتخذ منا مادة للدراسة، ولم ننتصر نحن عليه بعد ذلك إلا عندما بدأنا نفعل الشىء نفسه.

مع الأخذ فى الاعتبار كل ما يمكن أن يمس قضايا الأمن القومى، نرجو ألا يكون جانب من ملابسات قضية الأستاذ فهمى هويدى والزميل مجدى الجلاد دعوةً إلى الخلف.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة