حتى ساعات قليلة قبل إعلان نتائج الانتخابات الإيرانية، لم يكن أحد فى إيران أو خارجها يتوقع نزول الناس إلى الشارع للتنديد بما سموه تزوير أصوات المقترعين، والهجوم على كل أركان الدولة بما فى ذلك المرشد الأعلى للثورة على خامئنى، وهو أمر غير مسبوق فى إيران الإسلامية.
لكن ما لم يعلمه الكثيرون أن معركة إعلامية مختلفة ظلت تدور رحاها لمدة ستة أشهر كاملة بين إيران وفضائية الـ"بى بى سى" الناطقة بالعربية، والتى انطلقت لأول مرة فى الخامس عشر من يناير لتحدث تغييراً كبيراً فى الشارع الإيرانى، لدرجة أن مجلة نيوزويك الأمريكية اختارت قبل ثلاثة أسابيع أهم عشرين شخصية مؤثرة فى إيران ضمت سياسيين من الإصلاحيين والمحافظين، وجاءت فى الترتيب الثامن عشر المذيعة الإيرانية الشابة فرناز قاضى زاده أشهر مذيعات "بى بى سى" الفارسية.
منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 وحتى الآن لم تسمح السلطات الإيرانية بأى إعلام مختلف، ولا نقول معارض لتوجهات الثورة، ولم تفلح إذاعة صوت أمريكا فى الوصول للإيرانيين الذين ينظرون بشكوك كبيرة لكل ما هو أمريكى، خاصة فى السنوات الثمانِ التى حكمها جورج بوش الابن.
لكن إطلاق الـ"بى بى سى" الفارسية فى يناير الماضى، جعل الإيرانيين يشاهدون لأول مرة تليفزيوناً وإعلاماً مختلفاً تمثل فيه كل الاتجاهات والآراء، بما فى ذلك أشد معارضى النظام الإيرانى، مثل منظمة مجاهدى خلق، ناهيك عن كل رموز الإصلاحيين داخل وخارج إيران، ومنذ اليوم الأول حاربت السلطات الإيرانية محطة التليفزيون الجديدة، ولم تسمح باعتماد مراسل لها فى طهران رغم وجود مراسل لـ"بى بى سى" الإنجليزية بها.
وتعرضت "بى بى سى" الفارسية لهجوم شديد من المحافظين الإيرانيين، وقالت عنها وكالة الأنباء الرسمية فى إيران أنها تعمل على توظيف الجواسيس ضدها، مؤكدة أن المخابرات البريطانية ستستخدم "بى بى سى" لتجنيد إيرانيين من أجل التجسس والحرب النفسية، وقال وزير الاستخبارات الإيرانى غلام حسين محسنى، إن حكومته لا تعتبر القناة الجديدة مناسبة فى ما يتعلق بأمن الدولة وستتخذ ما تراه ضرورياً بهذا الخصوص.
ورغم حظر تركيب الأطباق لالتقاط الأقمار الصناعية، تنشط فى إيران تجارة سرية لبيع أطباق الدش، إضافة إلى تسجيل البرامج على أسطوانات ليزر وبيعها فى السوق السوداء، والتى أصبحت بالفعل تجارة رائجة، تماماً مثل أشرطة الكاسيت التى تحتوى خطب آية الله الخمينى، والتى كان يجرى تهريبها من باريس إلى إيران قبل الثورة الإسلامية.
ولأنه لا توجد سوى محطة تليفزيون واحدة غير حكومية هى "بى بى سى" بالفارسية فقد ارتفعت شعبيتها، بحيث يمكن القول، إنها ساهمت بشكل كبير فى التغيير الذى شهدته إيران فى الانتخابات الرئاسية، وأصبحت فرناز قاضى زاده المذيعة بالـ"بى بى سى" الفارسية، ليس فقط من أشهر الوجوه داخل إيران وإنما من أكثر الناس تأثيراً فى الشارع الإيرانى لدرجة يمكن القول معها، أنها هى المرأة التى غيرت إيران وزعزعت نظام الملالى.
وحين خرج المتظاهرون الإيرانيون للشوارع صبت السلطات الإيرانية جام غضبها على الإعلام الخارجى فى محاولة لمنع نقل صورة ما يجرى للخارج، وإضافة إلى التقييد على معظم الإعلاميين الأجانب قامت بالتشويش على أجهزة إرسال هيئة الإذاعة البريطانية لمنع التقاط "بى بى سى" فى إيران، وقالت هيئة التلفزيون والإذاعة البريطانية، إن الأقمار الصناعية التى تبث برامجها للشرق الأوسط وأوروبا تتعرض لعملية تشويش كبرى مصدرها إيران.
وفى حين رصدت النيوزويك الأمريكية هذا التغيير الكبير، الذى صنعه تليفزون "بى بى سى" فى إيران، واختارت فرناز قاضى زاده المذيعة فى "بى بى سى" الفارسى من بين عشرين شخصية مؤثرة فى إيران، اكتفى المسئولون الإيرانيون كالعادة بالحديث عن تجنيد الجواسيس، بينما الإعلام يلعب دوراً كبيراً فى التغيير دون الحاجة لتجنيد الجواسيس أو توزيع الأموال على المواطنين.
ولم ينتبه المسئولون الإيرانيون أيضا إلى أن شوارع طهران كانت خالية يوم 20 يناير أثناء حفل تنصيب الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما، الذى تابعه الإيرانيون على شاشة "بى بى سى"
الفارسية، وفى حين لا يملك معظم المواطنين الإيرانيين أطباق التقاط البث الفضائى فقد تكدسوا فى المنازل التى نجحت فى تحدى قرار حظرها، وكان هذا الفراغ فى الشارع إشارة على أن إيران تتغير لكن النخبة الحاكمة لم تكن تدرك حقيقة التغيير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة