أسماء صباح تكتب: جدى رجل شفاهى

السبت، 13 يونيو 2009 12:28 م
أسماء صباح تكتب: جدى رجل شفاهى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فتحت صفحة بيضاء جديدة, أردت أن أكتب عن الحياة, فكرت قليلاً وكثيراً, هل نعبر عن الحياة بالكتابة أم هل نعبر عن الكتابة بالحياة؟ هل نكتب عن الحياة هكذا؟ أم هل نكتب عادة عن حياة لم تعد حياة, بعبارة أخرى, عندما نكتب عن الحياة, نكتب بكلمات ميتة لا صوت فيها, جامدة كجمود الورقة والقلم, كازرار لوحة المفتاح هذه أو تلك.

لم يعد عندى ما أقوله الآن, إلا أن الشفاهى الذى لم يعرف الكتابة كان يمتلك الكثير.. الكلمة.. كان يمتلك الكلمة.. ولما تلوثنا بالكتابة تغيرنا، لا أعرف مدى وكيفية التغير وإلى أين سيوصلنا، ولكننا فى النهاية تغيرنا.

وأنا الآن أريد أن أكتب عن الحياة، أحسدهم أولئك الذين لم يفكروا يوماً بالكتابة عن الحياة, بل تكلموا عنها, تحدثوا عنها.. عاشوها.. كلمات لها وقع كالسيف.. ترتبك العشيرة كلها والقوم إذا ما تحدث القائد بكلمات قد تفعل بهم الأفاعيل, لا يوقع عقودا على أشياء كان قد وعد بها ونطق, ذاك الرجل قوى بكلماته, لها وقع عظيم.

جدى يذكرنى صباح مساء بأيام زمان, أيام لم يكن للورق من معنى, من وجود, ولا للكلمات من جمود, للكلمة سحر, يذكرنى بساعة معينة من نهار أحد الأيام لما قرر بيع قطعة أرض لجاره القريب فى السكن, الأخير أراد أن يبنى بيتاً لابنه الذى سيتزوج قريباً, كانت العائلات تعيش بجوار بعضها البعض, متلاصقة.

ناداه الجار طالباً أن يشرب معه فنجاناً من القهوة, ولفنجان القهوة معنى جميل, معنى للصداقة والجيرة ونوع من الخبز والملح بين الجيران, طلب الجار من جدى أن يطلب طلباً قبل أن يرتشف أى رشفة من فنجان القهوة, فقال جدى إن الطلب مجاب دون أن يكون هناك حاجة لنطقه, فقد دخل الرجل منزله, فكيف له أن يرده خائباً؟ لا يجوز فى عرف الشفاهى أن يطرد أحدهم وصل بيته, ولا يجوز له أن يرده خائباً مهما حدث ومهما كان حجم الطلب ونوعه.

أراد الرجل قطعة الأرض المجاورة لبيت جدى, وافق الأخير على الفور, فمن وسع على جاره وأخيه وسع الله عليه, وهكذا تمت الصفقة, تصافح الرجلان, واتفقا على عملية البيع, باع جدى أرضه واشترى الأخير بكلمة واتفقا على أن يسدد الجار ثمن الأرض بجزء من المحصول الذى يجنيه, كل عام القليل حتى تنتهى قصة الدين, تساءلت: ألم يكن هناك عقد بيع؟ ألم يتصل بمحامٍ ليحرر له السند؟ هل دفع له الجار نقداً؟ أم هل هى شيكات؟ وصل أمانة؟.

لم يسمع جدى بالتأكيد بكل هذه المصطلحات التى تخص مجتمعنا الكاتبى, فنحن لا وجود للكلمة عندنا خارج السطر ميتة, لا لون ولا طعم ولا رائحة ولا قوة, نشتاق للزمن البعيد حيث الصدق قبل وصول الورق, وكأن شر البشرية بدا لما صاروا يمسكون ورقة وقلم.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة