لم تكن «جوائز الصحافة المصرية» فى سنتها الثالثة، تمثل فقط قفزة أخرى إلى أعلى من حيث إقبال كبار الصحفيين والكتاب عليها تمويلا وتقييما وتحكيما. لقد جعلت صوت الموهوبين فى المهنة الصحفية يعلو بعد طول اختناق.. وهم بالطبيعة أقلية فى كل مهنة.
لقد استجدت أيضا فى مناقشات الصحفيين مع بعضهم ومع رؤساء تحريرهم منافسات على طرح الأفكار الجديدة لتناول القضايا التى تهم الرأى العام فعلا.. والحرص على التعمق فى التناول والمعالجة الصحفية.
وحتى فى التحقيقات الصحفية الخارجية، لم تعد الصحف تكتفى بنشر ما يرد إليها من وكالات الأنباء الأجنبية كما هى.. وإنما تنافس تلك الوكالات فى تناول الأحداث الخارجية من زاوية مصرية عربية. هذا هو ما جعل زميلا بوكالة أنباء الشرق الأوسط مثلا (محمد سعيد)، يفوز بجائزة أولى عن تغطيته للأحداث فى تونس، حيث كان هو مدير مكتب الوكالة هناك.
وزميلا آخر (محمد صالح - جريدة الأهرام)، يفوز عن رسالته المنشورة بعنوان «لماذا انتخب النمساويون كورت فالدهايم رئيسا» (بعد انتهاء عمله كسكرتير عام للأمم المتحدة)، رغم أن تحريره للصفحة الأخيرة لم يجعل التحقيقات الخارجية من بين اهتماماته سابقا.
كذلك بدأ جنود مجهولون داخل الصحف يحظون بتقدير مستجد داخل مهنتهم، كالمخرجين الفنيين مثلا، ويسمون غالبا سكرتيرى تحرير. وكان هذا منعكسا فى المرة الأولى التى أضفنا فيها هذا الفرع إلى المسابقة، حينما اخترنا الفنان المبدع حلمى التونى ليكون رئيسا للجنة التقييم المختصة بالترشيح للفوز قبل أن تتم المناقشة بين أعضاء اللجنة العامة للمسابقة.
واستجد أيضا تعامل مهنى حقيقى من الصحف القومية أساسا مع نتائج المسابقة.
فى السنة الأولى كانت كل جريدة تنشر فقط أسماء الفائزين منها، فى تجاهل كامل للفائزين من صحف ومجلات أخرى، خصوصا إذا كانت صحفا معارضة للحكومة. فى السنة الثالثة، ودون رجاء منى كالمعتاد سابقا، نشرت «الأهرام»، و«الأخبار»، و«الجمهورية» أسماء الفائزين جميعا - من كل الصحف - وصورهم. لقد زال نقص المعرفة الذى جرى لدى البعض فى السنة الأولى، بعد أن استقر فى أذهان الجميع أن لجنة المسابقة لا تقوم بتقييم الصحف ولا الصحفيين. هى فقط تقوم بتقييم الأعمال التى يتقدم بها صحفيون، بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية أو المهنية أو الشخصية.
ولم يكن الصحفيون الذين ينشرون أعمالهم فى الصحف الحزبية المعارضة، يحسون فقط بأنهم «يؤذنون فى مالطا».. وإنما صحفهم كذلك كانت تحس بين وقت وآخر كما لو أنها تصدر فى المنفى. وجاءت الجوائز لكى تفك هذا الحصار الإعلامى عن تلك الصحف.. وأيضا تذكر تلك الصحف بحقيقة أن كونها حزبية ومعارضة لا يعفيها من استيفاء مقاييس الأداء المهنى الصحيح. وذكر لى (الراحل) مصطفى شردى أكثر من مرة - وهو كان رئيسا لتحرير جريدة الوفد - أن وجود الجوائز بحد ذاتها، كادن حافزا مهما لدعم سلطة التحرير فى الجريدة فى مواجهة سلطة الحزب.
واستجد كذلك حرص الفائزين فى كل مرة على ضمان انتظام المسابقة لتستمر سنة بعد سنة.. من خلال مبادرة بعضهم بالمساهمة المالية فى جوائز السنة التالية.. حتى لو كانت المساهمة بسيطة ورمزية.
قبل هذا وبعده استجد هذا التواصل بين الأجيال فى المهنة الصحفية.. تواصل غير مسبوق، فهو لم يحدث قبل الاحتفال بالجوائز لثلاث سنوات متتالية.. ولا حدث مطلقا بعدها.
وبالمناسبة أذكر هنا أن زميلا صحفيا هو مجدى حجازى سكرتير تحرير «أخبار اليوم»، جاءنى بمناسبة فوزه بالجائزة الأولى فى الإخراج الفنى عن صفحات من تصميمه، ليفاجئنى برغبته فى أن يساهم بمبلغ الجائزة كاملا ليصبح تحت تصرف لجنة الجوائز فى سنتها التالية. وحينما رآنى مستغربا ومتحفظا قال لى: بالنسبة لى فإن القيمة المالية للجائزة مهمة.. لكن الأهم منها هو أننى سأتسلم يوم الاحتفال شهادة من تصميم الفنان مصطفى حسين، وتحمل توقيعات أحمد بهاء الدين، وصلاح حافظ، وإبراهيم نافع، ومحمود عوض، ومصطفى بهجت بدوى.. يا ريس.. هذه الشهادة سأعلقها فى منزلى ليراها أولادى طول العمر، لأنها أهم عندى مما لو كنت حصلت على شهادة الدكتوراه.
وبقدر ما أسعدتنى مشاعره، بقدر ما قلت له إننى أرفض تماما مبدأ مساهمته بكامل القيمة المالية لجائزته. فليصرف قيمة جائزته كاملا من البنك أولا.. وبالكثير بعدها ربما نقبل منه مساهمة رمزية تماما، بغير أن يحمل همّ استمرار الجوائز. الجوائز مستمرة بقدر استمرار كبار الكتاب والصحفيين فى التعبير عن ثقتهم بنزاهة المسابقة، من خلال تجديد مساهماتهم المالية سنة بعد سنة.
بصعوبة بالغة تقبل مجدى حجازى منطقى، لكنه ترجم حماسه بشكل آخر، فاجأنا به جميعا فى السنة التالية. فبعد احتفالنا بالجوائز فى سنتها الثالثة بفترة وجيزة، اتصل بى الدكتور على لطفى - وقد أصبح فى حينها رئيسا لمجلس الشورى - لكى يبلغنى اعتذاره عن عدم حضور الحفل الأخير للجوائز (الذى حضره رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى) بسبب سفره إلى الخارج. الآن هو يريد تعويض ذلك بدعوتنا جميعا إلى حفل عشاء باسم مجلس الشورى، والمجلس الأعلى للصحافة.. ويرجو موافاته بقائمة المدعوين فى حفلنا الذى جرى، حتى يوجه إليهم الدعوة مرة أخرى من جانبه.
ومنذ السنة الأولى للجوائز كنا نحن الذين نختار المدعوين. والدعوة المطبوعة تصدر بتوقيع مشترك من إبراهيم نافع نقيبا للصحفيين، ومنى كمقرر للجنة العامة ومشرف على المسابقة. وحتى بعد انتهاء فترة عضويتى بمجلس نقابة الصحفيين، قررت لجنة الجوائز استمرار نفس النظام فى السنة الثالثة.
وقلت للدكتور على لطفى: طالما أن دعوتك المشكورة إلى العشاء ستصدر باسمك، فإننى أرجو الاهتمام أولا بكبار المساهمين فى الجوائز بمالهم أو بجهدهم.. فالجوائز تستمد قيمتها أصلا منهم وبهم.
ذهبنا إلى عشاء الدكتور على لطفى رئيس مجلس الشورى الذى أقامه بنادى الجلاء للقوات المسلحة بمصر الجديدة، وهناك وجدت أن المدعوين - بخلاف الفائزين - هم رؤساء مجالس إدارة وتحرير الصحف القومية، وأعضاء مجلس نقابة الصحفيين، والمجلس الأعلى للصحافة.. زائد المحررين البرلمانيين الذين يقومون بتغطية أخبار مجلسى الشعب والشورى فى الصحف..
هذا إذن.. عشاء بخاتم النسر
قبل جلوسنا إلى الموائد صارحنى أحد المحررين البرلمانيين بقوله: على فكرة.. أنا شكوت إلى عدد من أعضاء مجلس النقابة من عدم فوزى بجائزة.. رغم تقدمى للمسابقة سنتين متتاليتين.. ففوجئت بأنهم يشكون من أن المسابقة والجوائز ليست تحت إشرافهم، وأنهم سيسعون إلى تغيير ذلك بأى طريقة.
وقلت له أمام الدائرة المحيطة بنا: وما علاقة مجلس النقابة بالجوائز؟ الجميع يعرفون من البداية أن هذه الجوائز مستقلة، وبتمويل مستقل، ولجنة تقييم مستقلة، ولا سلطان لأحد عليها سوى ضمائر أعضائها.. و.. أعطنى عقلك كصحفى.. رجل بمكانة أحمد بهاء الدين المعروفة، وقد كان نقيبا للصحفيين من قبل، ورئيسا لاتحاد الصحفيين العرب لعدة مرات، ورئيسا لتحرير مجلات «صباح الخير» و«آخر ساعة» و«المصور» فترات متتالية، ورئيسا لتحرير «أخبار اليوم» و«الأهرام» فترات أخرى.. بغير أن أذكرك بقامته الكبرى ككاتب ومفكر.. هل بعد أن يضع توقيعه على اختيار عمل فائز لأحد الصحفيين، يمكن أن يقبل هو - أو حتى تقبل أنت - أن يقوم مجلس نقابة الصحفيين بمراجعة النتيجة، وإعادة النظر فيها.. بغير أن أضيف إليك باقى أعضاء اللجنة؟!
فكرة البحث عن دور لمجلس النقابة فى الجوائز كانت تتردد بين وقت وآخر. لكن استمرار نجاح الجوائز وتضاعف ثقة المجتمع الصحفى فى جديتها ونزاهتها، كان هو الرد العملى المؤكد لاستقلالية الجوائز.
وكان طبيعيا أن يبدأ حفل العشاء بكلمة من الدكتور على لطفى ترحيبا بالمدعوين. وتحدث رئيس مجلس الشورى بكل مودة عن تجربته فى حضور احتفال العام السابق كرئيس للوزراء.. وأن ذلك المناخ الراقى المتحضر فى الاحتفال هو الذى جعله حريصا على إعادة الاحتفال بالفائزين وبالجوائز حتى لا تفوته المناسبة فى هذه المرة كرئيس لمجلس الشورى وللمجلس الأعلى للصحافة.
فى الكلمة التى ألقاها أحمد بهاء الدين، حرص على إعادة شرح تطور الفكرة من بدايتها، مركزا على جهدى المتواضع فى كل ما جرى على النحو الذى جرى. كان بهاء سخيا وكريما ومتدفقا بما جعل الصحفيين الفائزين يمطرون قاعة العشاء بتصفيقهم ومشاعرهم الحارة. لكننى فى نفس اللحظة أدركت تململا فى وجوه اثنين أو ثلاثة من المحسوبين على الحكومة على وجه الخصوص. النسبة معقولة، فنحن فى عشاء.. بخاتم النسر.
هنا جاءت مفاجأة الزميل مجدى حجازى مطبوعة على ورق فاخر وستة ألوان، وتناسق فنى مدهش، ومستطيل تحيط به «ترويسة» الصحف القومية والحزبية المعارضة المعروفة، وداخل المستطيل مقتطفات من تعليقات الصحف والمجلات المصرية والعربية على «جوائز الصحافة المصرية» كفكرة غير مسبوقة. فى مستطيل آخر أعضاء لجنة الجوائز ولجان التقييم مع مقتطفات من كلماتهم فى السنوات الثلاث. ثم قائمة بأسماء كل من ساهموا ماليا بالجوائز طوال ثلاث سنوات. وكذلك الجائزة الخاصة باسم المرحوم محمد توفيق دياب. وأخيرا قائمة بأسماء وأعمال الفائزين من الصحفيين والصحفيات فى كل سنة. المجموع: 85 صحفيا. واللافت بعد ذلك أنه يمكن طى الورقة العريضة مرتين فيصبح كل وجه لها حاملا أسماء الفائزين وأعمالهم فى كل واحدة من السنوات الثلاث.
مئات من النسخ جاء بها الزميل الكريم، واشترك مع زملاء له فى توزيعها على الحاضرين جميعا، بينما كنت الأكثر استغرابا واندهاشا بينهم: متى فكر مجدى فى ذلك؟ وكم من الإبداع وضعه فى التصميم الفنى؟ وأى جهد بذله فى السعى إلى طباعتها بتلك الدقة، وفى هذا الوقت القصير؟ هذا وغيره كان نسمة هواء منعشة فى ذلك العشاء.
وحينما أعود خلفا بالذاكرة إلى تلك اللحظة.. أكتشف أنها لم تكن سوى بداية النهاية فى تلك القصة الاستثنائية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة