بعد ساعات من خطابه فى جامعة القاهرة، كانت محطة الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى ألمانيا، ومنها دعا العرب إلى تقديم تنازلات لإسرائيل، وبقدر ما تبدو هذه الدعوة تقليدية ممن سبقوه من الرؤساء الأمريكيين الذين تصدوا لمحاولة حل الصراع، فإنها تأتى من أوباما أكثر خطورة، والأدلة على ذلك كثيرة، فالرجل الذى يقتحم العالم بكاريزمته الخاصة، وبلغته الناعمة التى تبدو مؤثرة فى خطابها العام يأتى الخوف من أن تكون سماته الشخصية والقيادية مدخلا لحشد مؤيدين لأطروحاته التى رفضنا مثلها من قبل.
واذا أخذنا القضية الفلسطينية نموذجا، فسنجد فى حدود ما أعلنه حتى الآن أن الفرق بين ما يقدمه، وما قدمه من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين يكمن فقط فى الأسلوب، فجورج بوش «الابن» مثلا تحدث دائما عن الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، وفى بعض الأحيان كان يتحدث أيضا عن المستوطنات «غير الشرعية»، وكأن الاستيطان فيه شرعى وغير شرعى، ولمن ينسى فلنذكره أيضا أنه قبل الحرب على العراق بأيام قليلة والتى انتهت باحتلاله، جاء تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى السابق إلى المنطقة ليتحدث عن تحريك عملية السلام لإقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وقبل بوش قال أيضا الرئيس الأمريكى كلينتون نفس الكلام، وقبله كان جورج بوش الأب يتحدث عن الاستيطان غير «القانونى». ومن الخلفيات السابقة يتأكد أن ما ذكره أوباما عن الدولة الفلسطينية هو تكرار لمن سبقوه، بدءا من التعامل مع الاستيطان مرورا إلى دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وحتى دعوته للعرب بتقديم تنازلات إلى إسرائيل هى نفس الدعوة التى لم يمل أى مسئول أمريكى سابق وحالى من تكرارها، وكأن العرب فقط هم المطلوب منهم من وجهة النظر الأمريكية أن يقدموا التنازلات دون أن يذهب نفس المطلب إلى إسرائيل. لم يأت أوباما إلى القاهرة حتى نسمع منه حلا سحريا للقضية الفلسطينية، ولم يأت حتى نسمع منه اعتذارا تاريخيا على ما فعلته بلاده فى حق العرب، وعلى مساندتها اللانهائية لإسرائيل، هو فقط جاء للبحث عن مصالح بلاده، وهى المصالح التى لن تخرج عن دائرة من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين، وإن اختلفت الأساليب، وفى دعوته للعرب إلى تقديم تنازلات لإسرائيل نموذج واضح على ذلك، فمشهد القضية الفلسطينية فى سنواته الأخيرة هو سلسلة من التنازلات العربية التى وصلت إلى حد مبادرة العاهل السعودى الملك عبدالله التى ذهبت إلى اعتراف جماعى للعرب بإسرائيل والتطبيع معها، فى مقابل إعادة الحقوق العربية المتمثلة فى إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى المغتصبة عام 1967، ومع ذلك لم توافق إسرائيل على المبادرة، ولم تضغط أمريكا على إسرائيل لقبولها، فأى تنازل جديد من العرب يريده أوباما؟.
السؤال يأتى من حيث ما يرفضه الشعب الفلسطينى من تصميم إسرائيل على رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، الذين أخرجتهم المذابح الإسرائيلية من أرضهم بتواطؤ دولى قادته أمريكا، ترفض إسرائيل مطلقا هذا الحق للاجئين، فى نفس الوقت الذى تقوم فيه على عقيدة أن الأرض الفلسطينية المحتلة هى حق أبدى ليهود العالم يعودون إليها وقتما يحبون، ويستثمرون فى ذلك الحجج التاريخية مثل الهولوكوست، والمفارقة أن هذا يحدث فى الوقت الذى يطالبنا الغرب بنسيان حجتنا التاريخية فى التأكيد على أن آلة الحرب الصهيونية ارتكبت فى حق العرب نفس الهولوكست التى ارتكبها النازى ضد اليهود فى الحرب العالمية الثانية.
المطلوب حسب القراءة الأولى لمطلب أوباما بتقديم العرب تنازلات إلى إسرائيل هو غلق ملف اللاجئين، ونفى ذاكرتنا حوله، وبالتالى التسليم بيهودية الدولة الإسرائيلية، وفتح الباب أما مشاريع قديمة قد يظن البعض أنها تنتمى إلى لغة «خشبية» مثل اعتبار بلاد أخرى مثل الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين، فهل يكون أوباما هو الساحر الفعلى لتنفيذ مثل هذه المشروعات؟.
ومن اللاجئين إلى قضية القدس وتصميم إسرائيل على عدم التفريط فيها مهما كانت الظروف، يأتى التحدى الثانى فالفلسطينيون ومن خلفهم شعوب العالم الإسلامى يؤكدون على أن القدس هى عاصمة الدولة الفلسطينية فى أى حل نهائى، وأمام تصميم إسرائيل على رفض ذلك ماذا سيكون موقف أوباما؟، الإجابة لا تحتاج إلى كثير من الجهد فما تراه إسرائيل فى تلك المسألة فسيكون هو نفس ما يراه أوباما وإلا سيكون هناك انقلاب جوهرى فى الفهم الأمريكى للقضية الفلسطينية، وهذا جانب آخر يقودنا إلى الفهم الحقيقى لمطلب أوباما للعرب بأن يقدموا تنازلات إلى إسرائيل.
ومن الخلفيات السابقة أقول إننا لا نحتاج إلى سباق فى إثبات العواطف نحو أوباما، ولهب التصفيق، والصياح أمامه بكلمات من عينة ما قاله الفنان شريف منير له فى مدرجات جامعة القاهرة «نحن نحبك، أو خدنى معاك»، والتأثر بلغته الوجدانية التى يراها البعض ضميرا أكثر منها واقعا، وإنما نحتاج إلى الوقوف أمامه بنفس النهج الذى يؤسس لاتباعه، فإذا كان هو يسعى إلى مصلحة بلاده، ومصلحة إسرائيل فى آن واحد، فلنبحث نحن أيضا عن مصالحنا، ولن يتم ذلك بزفة الإعجاب اللانهائية بما يقوله وبما يفعله، وإنما فى دراسة أهدافه الحقيقية والتعامل معها بجدية شرط أن يكون ماثلا أمامنا، أن هناك من الرؤساء الأمريكيين من يسقينا السم فى العسل وربما يكون أوباما منهم، وهناك من يسقوننا السم بوصفه سما كما فعل جورج بوش قبله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة