دعوة الرئيس الأمريكى إلى أن «ننسى» وأن «نسامح» ما وقع من عمليات تعذيب للمعتقلين الإسلاميين على أيدٍ أمريكية، بعضها قذر يخدش الحياء، بإيعاز مباشر من كبار المسئولين وغطاء من «الشرعية» من وزارة العدل، ليست فقط دعوة ساذجة، بل هى أيضاً دعوة تدعو فى حد ذاتها إلى الأسف.
ثمة سبيل واحدة إلى المغفرة: تقديم المسئولين عن هذه القذارة (وهم معروفون) إلى العدالة والاعتذار علناً باسم الشعب الأمريكى الذى وجد معظمه نفسه مثل بقية العالم ضحية عصابة من رعاة البقر. وحتى بعد ذلك لا ينبغى لأى أحد فى أمريكا ولا فى غيرها أن ينسى... أبداً.
بعد ضغط من إحدى منظمات الدفاع عن الحريات المدنية، سمح الرئيس الأمريكى باراك أوباما، بنشر أربع مذكرات يحدد فيها مستشارو وزارة العدل لمحققى وكالة الاستخبارات المركزية «كيف» (لا ما إذا كان شرعياً، بل «كيف») يمكن لهؤلاء أن يقوموا بتعذيب المعتقلين الإسلاميين بعد الحادى عشر من سبتمبر.
شكراً للاتحاد الأمريكى للحريات المدنية على ذلك الضغط، وشكراً للرئيس على استجابته للضغط، وشكراً لمحققى الوكالة على أنهم «استأذنوا» قبل أن يقوموا بالتعذيب. وإلى هنا ينتهى الشكر.
لكنه، وقد فعل هذا، يقرر أوباما فى الوقت نفسه أن أحداً من وزارة العدل أو من السى آى إيه، لن يخضع للمحاسبة، ويكتفى بعد ذلك بأن يدعونا جميعاً إلى أن «ننسى» وأن «نسامح»، ويعتمد فى تبريره لهذا القرار على ما يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أسس:
أولاً: استراتيجية الأمن القومى؛ إذ يقول: إن «رجالنا ونساءنا فى مجتمع المخابرات يخدمون بشجاعة على جبهات من عالم خطير... علينا أن نحافظ على سرية أشخاصهم باليقظة نفسها التى يحافظون بها على أمننا، وعلينا أن نبث فيهم الثقة بأنهم يستطيعون أداء وظائفهم».
ثانياً: مشروعية طاعة الأوامر؛ إذ يقول إن عملاء سى آى إيه كانوا «يقومون بواجباتهم بحسن نية بناءً على نصيحة قانونية من وزارة العدل». ثالثاً: الوحدة الوطنية والنظر إلى الأمام، إذ يقول: إن «هذا وقت التأمل لا وقت الانتقام... وقت تملؤه تحديات كبرى، وتفكك مزعج ولن نجنى شيئاً من إضاعة وقتنا وطاقتنا فى إلقاء اللوم على الماضى».
ويمكن لأى متأمل فى الواقع الأمريكى أن يهدم هذه الأسس بسهولة.
فأولاً من المعروف فى الأوساط الأمنية، خاصةً فى أمريكا، أن مسألة حماية هوية العملاء مسألة «تشويه محسوب»؛ إذ إن العميل الذى يتوفر حوله ما يلفت النظر من الشكوك أو من الاتهامات لا يُكشف عن هويته إلا بعد اتخاذ الاحتياطات اللازمة التى من بينها إعفاؤه من وظيفته. وعندما يُعفى عميل من مهامه، لا تكون هناك حاجة للاستمرار فى حماية هويته بحجة متطلبات الأمن القومى.
ويتعدى الرئيس الأمريكى مجرد الدعوة إلى عدم محاسبة من أخطأوا بالفعل إلى ما يقترب من منح الحصانة لمن سيخطئ فى المستقبل، من خلال دعوته إلى أن «نبث فيهم الثقة بأنهم يستطيعون أداء وظائفهم».
ولأن كثيرين فى أمريكا يتفقون معه على أن تعريض هؤلاء للمساءلة سيؤثر فى «ثقتهم بأنهم يستطيعون أداء وظائفهم» فإن العقلاء منهم يرون أن هذا بعينه ما ينبغى أن يكون؛ فلا يمكن لأحد، خاصةً هؤلاء الذين يعملون بالفعل وراء ستار من السرية، أن يشعروا بالحصانة وبأنهم وحدهم يحتكرون التفسير القانونى والأخلاقى، وبأنهم من ثم يستطيعون «أداء وظائفهم» دون محاسبة.
ليس السؤال هو ما إذا كان العلم بوجود المحاسبة سيؤثر فى الثقة، بل إن السؤال هو: إلى أى مدى وممن تُستمد الثقة؟ وهو ما يقودنا إلى الأساس الثانى الذى بنى عليه الرئيس حجته.
إن التحجج بأن الذين قاموا بالتعذيب، كانوا فقط يطيعون الأوامر وأنهم لم يقوموا به إلا بعد أن «استأذنوا» وزارة العدل، يفتح باباً لا نعتقد أن أحداً سيستريح لفتحه؛ إذ إن الحجة الأساسية التى استخدمها النازيون فى دفاعهم عن أنفسهم كانت أساساً أنهم كانوا يطيعون الأوامر والقوانين المتاحة آنئذ.
إضافةً إلى أن استئثار وزارة العدل بإصدار «فتوى« سرية وراء أبواب مغلقة، مسألة لا تتفق مع الدستور الأمريكى لا نصاً ولا روحاً. ماذا لو أصدرت الوزارة غداً «فتوى» أخرى تبيح اغتصاب زوجات «الإرهابيين»، أو حتى التهديد باغتصابهن، على أساس أن هذه الطريقة ربما تؤدى إلى الحصول على معلومات؟ هل يوافق باراك أوباما على هذا أيضاً؟
أما حجة الرئيس الأمريكى بأننا «لن نجنى شيئاً من إضاعة وقتنا وطاقتنا فى إلقاء اللوم على الماضى» فهى حجة إما فى غاية السذاجة أو فى غاية اللؤم، لكنها فى الحالتين ضارة بكل تأكيد، وسيصيب ضررها أطرافاً كثيرة على رأسها الشعب الأمريكى نفسه. هل تخيلت أسامة بن لادن وهو يستمع إلى باراك أوباما؟ هل تخيلت ماذا يمكن أن يظن، وماذا يمكن أن يقول؟ «انظروا! هذه هى أخلاق الأمريكان! يفعلون الفواحش ويرتكبون الرذائل ويطلبون منا بعد ذلك ألا نضيع وقتاً فى النظر إليها». يقف أفراد الشعب الأمريكى (والغربيون عموماً) ، مهددين بأن يدفعوا ثمن موقف كهذا الذى يتبناه الآن الرئيس الأمريكى. سيكون مشوقاً أن نعرف رأيه فيما إذا استطاعت جماعة إسلامية متطرفة أن تختطف جندياً أو مدنياً أمريكياً أو غربياً ثم استصدرت فتوى داخلية تفيد أنه «نظراً لما فعله الأمريكان بأسرانا فإن من القصاص الآن أن تُضرب أصابع أسراهم وأن تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف قبل أن تُجتث أعناقهم من جذورها». ماذا سيدور بذهن الرئيس الأمريكى عندما يخرج أحد زعماء تلك الجماعة بعد ذلك كى يدعونا جميعاً إلى أن ننسى وأن نسامح وألا نبحث فى ملابسات ما حدث بحجة أن ذلك سيكون مضيعة للوقت؟
ثم، أى رسالة يبعث بها الرئيس الأمريكى إلى الأنظمة العربية التى تعتمد التعذيب أداةً لقمع معارضيها من الإسلاميين وغير الإسلاميين؟ كيف يمكن للمدافعين عن حقوق الإنسان وعن الحريات المدنية أن يتجرأوا بعد ذلك على انتقاد تلك الأنظمة؟ بل كيف تسمح وزارة الخارجية الأمريكية لنفسها بعد ذلك أن تصدر تقريرها السنوى عن أوضاع الحريات وحقوق الإنسان فى تلك الدول وهى نفسها جزء من دولة تعتبر محاسبة الذين سمحوا بالتعذيب والذين قاموا به مضيعة للوقت؟
ليس من المبالغة إذن أن نقول إن الإدارة الأمريكية الجديدة تقف اليوم فى مفترق طرق. لقد عقد الأمريكيون وبقية شعوب العالم بناصيتها آمالاً كبيرة فى إغلاق صفحة سوداء من تاريخ أمريكا.
وما من شك فى أن قرار الرئيس أوباما بإهمال قضية التعذيب يمثل انتكاسة لم نكن فى حاجة إليها، ليس فقط من الناحية الأخلاقية بل أيضاً من الناحية الأمنية المباشرة والناحية الاستراتيجية بوجه عام. لكنها لحسن الحظ انتكاسة يمكن معالجتها؛ فلا تزال أمام الرئيس الأمريكى فرصة للتفكير مرة أخرى وإعادة الأمور إلى نصابها.
إن الذى وقع فى جوانتانامو وفى أبوغريب وفى باجرام وفى بعض المعتقلات العربية لحساب الأمريكيين لم يكن عملاً فردياً وليد لحظة انفعال، بل كان جزءًا من سياسة مقصودة تمت صياغتها على أعلى مستوى وتم تنفيذها بدم بارد عبر نظام بيروقراطى ممتد.
تتوفر بين أيدينا اليوم جميع عناصر القضية، جميعها اليوم بين أيدينا باستثناء القرار السياسى الذى ينبغى له أن يصدر بحق أناس نعرفهم ونعرف ما فعلوا ونعرف أين يسكنون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة