فى عام 1993 تولى الصديق الصحفى وشاعر العامية الجميل أسامة الغزولى مهام عمله مديرا لمكتب جريدة القبس الكويتية بالقاهرة، واستدعانى للقاء عمل، حيث طلب منى إعداد صفحة يومية تخاطب الجالية المصرية بالكويت، بعد أن أصبحت أكبر جالية هناك بعد انتهاء حرب تحرير الكويت فى عام 1992، وكان من بين تكليفاته كتابة عمود يومى بعنوان "ملاحظات".
هكذا بدأت الكتابة اليومية منذ 14 عاما، واستمرت رحلتى مع القبس نحو خمس سنوات، اشتبكت فيها مع قراء عرب من جميع الجنسيات، خاصة من الكويت واليمن والسودان، وأعترف أن الكتابة لم تكن مهمة صعبة، لكن المناقشات والتعليقات مع القراء العرب كانت فى منتهى الصعوبة.
لم يكن البريد الإلكترونى قد توسع كما هو الحال الآن، ولم تكن الفاكسات شائعة فى البيوت، ولم تكن مكاتب الاتصالات الخاصة قد بدأت، لكننى كنت أتلقى على البريد العادى رسائل كثيرة يناقشنى فيها القراء فى كل كلمة وحرف بمنتهى الدقة، مما يكشف عن الكثير من الثقافة العامة لدى القراء العرب.
ثم انقطعت عن الكتابة اليومية حتى عدت قبل عامين بدعوة من الصديق عبد الله كمال رئيس تحرير "روزاليوسف"، حيث كتبت "يوميات مواطن"، قبل أن أتوقف بسبب قرارات "الأهرام" بمنع الكتابة فى صحف منافسة، ثم عدت إلى الكتابة اليومية بدعوة من الصديق خالد صلاح رئيس تحرير اليوم السابع قبل نحو شهر لأواصل هوايتى فى التواصل اليومى مع الناس، وهى أعظم ما أملكه وأحبه فى الحياة.
وخلال ثلاث تجارب من الكتابة اليومية فى صحف عربية ومصرية مختلفة التوجهات والمشارب حافظت على استقلاليتى، وعلى ليبراليتى أيضا، التى تعنى الانفتاح على كل الآراء والتوجهات والأفكار، دون انحياز لرأى أو ضيق بنقد، لكننى أعترف أيضا بأن الكتابة اليومية فى الصحف المصرية مختلفة كثيرا، لأن القارئ المصرى مختلف عن القارئ العربى، أو ربما اختلف القارئ العربى دون أن أدرى.
قبل خمسة عشر عاما كان القارئ يقرأ بوعى وفهم، يناقش الأفكار، ولا يضيق بالآراء المخالفة، يدافع عن رأيه بكل قوة، ولا يستخدم مرادفات التخوين والتكفير أبدا، لكن خلال العامين الماضيين لاحظت، مع الكثير من الأسف، أن صدور الناس بدأت تضيق، ولم يعد الخلاف فى الرأى وسيلة للحوار بقدر ما تحول إلى كتل غاضبة من الكلام.
فى عام 1999 عملت مسئولا عن الديسك السياسى لجريد "الشرق الأوسط" اللندنية فى القاهرة مع الزميل والصديق إبراهيم منصور رئيس التحرير التنفيذى لجريدة الدستور اليومية الآن، وكان يزعجنا جدا أن الزملاء الصحفيين العاملين معنا، يضيقون بالرأى الآخر ولا يقبلون النقد، وكان غالبا ما يرد عليهم بعبارة أتذكرها جيدا: "افهم ما تحفظش".
ويبدو أن العداء للفهم أصبح ملازما للكثير من القراء فى مصر وبلدان عربية أخرى، ولم تعد أمة اقرأ تقرأ، وإذا قرأت فإنها تفعل ذلك من منظور ضيق، فى محاولة لتصيد الأخطاء أو الاختلافات للكاتب ومن ثم سن السكاكين وذبحه على الملأ، رغم أن الله سبحانه وتعالى خاطب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قائلا: "وجادلهم بالتى هى أحسن" صدق الله العظيم.
لا أخفى أننى أحيانا يراودنى الإحباط من ردود القراء، وأنزعج كثيرا من المتسرعين بتكفيرى وإهدار دمى وتخوينى، لكننى لن أتوقف عن الكتابة، ولن يداهمنى اليأس من الإصلاح، حتى ولوتحول المزاج العام للناس ناحية التطرف والضيق بالرأى الآخر.
شكرا لكل من كفرونى وهم كثر.. وشكرا لكل من خونونى وهم كثر أيضا.. وشكرا لكل من وصفنى بالمارينز الجدد.. لكننى ما حييت سأظل مؤمنا بمصريتى داعيا إلى الحب والتسامح وحق الناس فى الحرية والاختلاف، مؤمنا بأن التدين ليس دعوة للانغلاق، أو الهجوم على الآخر وتقطيع هدومه.. هدانا الله وإياكم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة