الرابع من يونيه 2009 تاريخ مهم سيبقى طويلاً فى الذاكرة السودانية، حيث سيتذكر الناس أنه فى هذا اليوم تحولت الحركة الشعبية لتحرير السودان من حركة متمردة حسب التصنيف الرسمى، ومناضلة حسب المعارضة، إلى حزب سياسى، وحيث تم حل الذراع العسكرى للحركة بعد 26 عاماًَ من العمل المسلح والمعارك التى خاضتها الحركة منذ تأسيسها عام 1983.
وبموجب هذا الإعلان تسجلت الحركة الشعبية كحزب سياسى تمهيداً لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية فى السودان، وهى انتخابات ستحدد بشكل كبير شكل السودان القادم، وهل ستحتفظ الدولة السودانية بحدودها الحالية، أم ستؤدى إلى انفصال الجنوب عن الشمال فى استفتاء تقرير المصير المقرر له العام القادم.
السودان فى لحظة تحول كبرى، إما أن تدق فيه طبول السلام إلى الأبد، وإما تكريس الانفصال الواقع على الأرض، بين شمال البلاد وجنوبها حتى ولو رفض المسئولون السودانيون الاعتراف بالواقع الانفصالى السائد على الأرض.
وخلال أكثر من خمسة عشر عاماً من العمل والاهتمام بالشأن السودانى، أتيح لى لقاء صناع القرار والسياسة فى هذا البلد، من مختلف التوجهات السياسية، فى الوقت نفسه الذى جمعتنى فيه صداقات عديدة مع مواطنين ومثقفين سودانيين من الشمال والجنوب على حد سواء، وخرجت من حصيلة هذه السنوات بانطباع عام، مفاده أن أمانى السياسيين فى تصويت الجنوب على خيار الوحدة، ليست ما يعتقده الناس فى جنوب السودان ولا حتى فى شماله.
السودان بلد متعدد الأعراق والديانات واللغات، وهو من أكثر بلاد العالم احتساداً بالثقافات المختلفة، لكن بدلاً من استغلال هذا التنوع فى خلق حالة من التعايش الخلاق بين المواطنين، سقط السودان فى فخ العنصرية والحروب الدينية، فى نفس الوقت الذى عمل فيه الغرب على فصل الجنوب عن الشمال منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن.
وليس خافياً على أحد أن بريطانيا التى احتلت مصر والسودان أقرت قانوناً فى منتصف القرن التاسع عشر يعرف بقانون المناطق المغلقة، منع سكان الشمال من زيارة الجنوب إلا بتصريح من قوات الاحتلال، وهو الأمر الذى خلق حالة من العزلة استمرت أكثر من مائة عام عاشها الجنوبيون بمعزل عن الشمال، بينما تم السماح للكنائس الغربية بالتبشير فى ربوع الجنوب الوثنى حتى أصبح السودان عملياً ينقسم بين شمال مسلم وجنوب مسيحى.
لكن هذا الاهتمام الغربى بالجنوب وبفصله عن السودان، لم يكن السبب الوحيد لتأجيج دعوى الانفصال، فقد أخطأ الساسة الشماليون منذ الاستقلال عن مصر، فى تعميق الخلاف مع الجنوب، عبر الإهمال تارة، والاستعلاء تارة أخرى، وإشعال الحروب الدينية وإعلان الجهاد ضد الجنوب المسيحى والوثنى.
كان واضحاً للجميع أن جنوب السودان يمثل جرحاً عميقاً فى جسد الوطن السودانى، وتعددت الحركات الاحتجاجية، وتعددت أيضاً مؤتمرات ومبادرات الحل، كان أبرزها اتفاق أديس أبابا فى عهد الرئيس جعفر نميرى، الذى منح الجنوب حكماً ذاتياً، لكن هذا الاتفاق سرعان ما سقط بعد انقلاب الجبهة القومية الإسلامية التى رفعت راية الجهاد فى الجنوب.
وحين بدا واضحاً أن هذه الحرب لن تنتهى بإخضاع الجنوب، كان قرار الجبهة القومية بزعامة الدكتور حسن الترابى، الحفاظ على الدولة الدينية فى الشمال حتى ولو كان الثمن انفصال الجنوب، لذلك تعددت الوساطات حتى وصلنا إلى اتفاقية "نيفاشا" التى منحت الجنوب حق تقرير المصير عام 2001.
وقبل محطة تقرير المصير لدينا محطة الانتخابات العامة التى ستجرى هذا العام، وتشارك فيها كافة الأحزاب السياسية، بما فى ذلك الحركة الشعبية الجنوبية، وقد تكون هذه الانتخابات فرصة لتهدئة المخاوف لدى الجنوبيين، وقد تفتح الباب للتعايش، وإن كنت أشك كثيراً فى حدوث تغيير درامى فى عقلية مواطنى جنوب السودان.. لكن الدرس المهم الذى يجب أن يخرج به جميع العرب، هو ضرورة الحفاظ على التنوع الدينى والثقافى داخل عالمنا العربى، وأن التطرف لا يؤدى إلى الاستقرار، وإنما إلى المزيد من التمزق والانفصال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة