كتبت الأسبوع الماضى باليوم السابع رسالة تعزية للرئيس مبارك فى فقد حفيده، ولأن الرسالة كانت إنسانية تلقيت تعليقات عديدة من القراء ملؤها المديح والشكر والإشادة بوطنيتى وقوميتى ومصريتى، ولما كان المديح والشكر شىء جديد لم أتعود عليه من قبل لكونى معتاداً تلقى الشتائم من الإسلاميين والمتأسلمين وموظفين أمن الدولة بعد كل مقال وبلا أدنى موضوعية وبلا أى نقد منطقى، بل مجرد سيل من الشتائم ونهر من الاتهامات بالصهينة والعمالة لأمريكا وشلال آخر من الاتهامات.
ولآنى أخذت راحة لمدة أسبوع من الشتائم والاتهامات كنقاهة شعرت أننى قادر على تلقى ضعف الجرعة المعتاد عليها أسبوعيا، فقررت أن أكتب عن تصادم حرية الرأى والدين والذين وراء تطبيق الدين.
رأيت الأسبوع الماضى فيلم وراثة الرياح (Inherit The Wind) لسبنسر تراس ( Spancer Tracy)، الذى كان نجمنا المفضل فى الستينات، حيث كان سبباً دائماً للتزويغ من مدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا والذهاب لسينما روى أو بلازا لمشاهدة أفلامه.
تدور أحداث الفيلم فى بلدة صغيرة تسمى هلسبرو (Hillsboro) بولاية نبراسكا، حيث كان سكان تلك القرية من المتدينين جداً أو مدعين التدين، وكان أهم شخصيتين فى البلدة هما قسيس ومحامى البلدة اللذان أخذا مهمة تعليم سكان القرية للدين فى الوقت الذى كان قانون ولاية نبراسكا يمنع على المدارس تدريس أى مواد تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس "الإنجيل".
وفى إحدى المدارس الثانوية بدأ مدرس شاب فى تدريس نظرية دارون "Evolution" التى تشيرالى أن الإنسان كان فى أصل خليقته قرداً أو بدأ كحشرة ثم تطور لكنه لم يخلق على الصورة التى هو عليها الآن.
ثار القس والمحامى عندما علموا بما يقوم بتدريسه ذلك المدرس الشاب بمدرسة القرية وبدأوا حملتهما ضده وقامت المظاهرات تطالب المدرس بإلغاء تدريس نظرية دارون إلا أن المدرس رفض ولم يتراجع عن تدريس النظرية، فقرر مجلس القرية رفع دعوى ضد المدرس لتدريسه مواد وعلوم تتعارض مع الكتاب المقدس وضد نظرية الخلق التى تؤكد أن الله خلق الإنسان كما هو الآن.
ذاعت أخبار المحاكمة خارج القرية وانتشرت فى كل أنحاء أمريكا، وبالأخص فى ولاية شيكاغو التى كانت مركزاً للتقدم العلمى فى أمريكا، حيث تطوع الممثل سبسر تراس الذى كان يقوم بدور أشهر محامى أمريكا للدفاع عن ذلك المدرس الشاب وذهب للقرية الصغيرة مصطحباً معه أهم وأشهر علماء وأساتذة الطب والأحياء من جامعة شيكاغو العريقة.
وبدأت المحاكمة فى مشهد يظهر به قاضٍ ومحامٍ ومتهم وجمهور غاضب ومتعصب رافضاً سماع أو مناقشة أى شىء وبدأت المحكمة باختيار المحلفين من الأشخاص والذين لم يوافق محامى الدفاع على أى منهم، وكذلك الشهود ومنعت المحكمة كل العلماء من الإدلاء بشهادتهم بحجة أن شهادتهم ليست شهادة موضوعية لمخالفتها لما جاء بالكتاب المقدس "الإنجيل" ولم يجد المحامى إلا شاهداً واحداً، وهو محامى المدينة المتعصب ليوجه له ثلاثة أسئلة ذكية كانت:
1- هل سلب الكتاب المقدس البشر حرية التفكير؟، حيث إن أى فكر جديد حتى ولو كان هناك أدلة واضحة تؤكد أن الطريقة التى نفهم بها الكتاب المقدس خاطئة، حيث دلل على ذلك بأن الله خلق الكون فى سبعة أيام ويفسر البعض أن اليوم المقصود هو اليوم المعروف لدينا حالياً (24 ساعة)، ولكن لو نظرنا أن الله خلق الشمس فى اليوم الرابع، كما ورد بالكتاب المقدس فمن الممكن أن اليوم الأول والثانى والثالث وجزء من اليوم الرابع لم يحدث بهم شروق أو غروب للشمس ولربما يكون اليوم المقصود 50 ساعة و100 أو سنة أو مليون سنة، فإذا كان هذا مقبولاً عقلاً وصحيحاً، فأن نظرية دارون للتطور لا تتعارض مع الكتاب المقدس.
2- هل يحق لشخص أو شخصين أن يضعوا تفسيرات للدين ويجبروا باقى الناس عليها وإذا خالفهم أحد الرأى أو لم يوافقهم على تفسيرهم وتفكيرهم أن يتهموه بالكفر؟.
3- هل منع الدين التفكير والبحث العلمى حتى فى بعض المجالات التى قد تتعارض مع تفسيرات البعض على أنه ضد الدين حتى لو كانت هناك أدلة علمية مع ما نعتقد أنه النظرية الصحيحة؟.
ورغم كل ذلك فشل محامى الدفاع الشهير من إقناع الناس والمحكمة ببراءة موكله المدرس المتهم وأدى تعصبهم إلى الحكم عليه وإدانته، لكن محاميه وعد بالاسئناف، ولكن لم يذكر لنا الفيلم ما حدث فى الاستئناف لكنه فى نهاية الفيلم دار نقاش بين محامى الدفاع وبين أحد الصحفيين الذى لم يكن له رأى، وقال إنه يأسف على حالته الفهمية وأنه معجب بكلا الكتابين "كتاب الأحياء والكتاب المقدس" وانتهى الفيلم بأن يخرج محامى الدفاع سبنسر تراس وتحت أبطه الكتابين معا "الكتاب المقدس وكتاب الأحياء" وذكرنى القس ومحامى البلدة بمصطفى بكرى.
ذكرنى حال تلك القرية الصغيرة من 80 سنة بحال مصر حالياً وفكرنى المدرس الشاب بوزير الثقافة فاروق حسنى ونجيب ساويرس عندما تكلموا عن الحجاب، وذكرنى الصوت الحر فى مصر والذى يدعو إلى التطور وانتقاد الفتاوى بصوت محامى الدفاع الذى لا يريد أن يسمعه أحد.
وعلى الرغم من أن الصوت الحر فى مصر لا يسمعه أحد، بل لا يريد أن يسمعه أحد، إلا أنه يقوى رويدا رويدا وأن الأفكار الرجعية التى تعتمد على فكرة التخويف الدينى تتوارى أيضاً.
ويجب أن نعرف أننا فى مصر الحديثة قد قامت حركة التمدين والتطور قبل مدينة هليسبر فى نهاية القرن الماضى وبداية القرن الحالى عندما ظهرت أفكار التقدم المصرية، وهى ما تعرف بعصر النور الذى بدأه الشيخ رفاعة الطهطاوى والشيخ محمد عبده وما تلاهم من شخصيات عظيمه مثل قاسم أمين وهدى شعراوى وطه حسين وآخرين من الذين أخذوا على عاتقهم تطوير مصر وبعدها أصبحت بلدنا مركزاً لتصدير التقدم الفكرى والإسلام المصرى العظيم والمتطور ولكن للأسف قامت الحرب العالمية الثانية ثم تلتها ثورة العسكر المشئومة التى استوردت لنا الهزيمة والنكسة وجعلت أملنا الوحيد فى تلك المبادئ الرجعية أخذنا للخلف عشرات السنين، فيجب علينا كمصريين جميعاً أن ننبذ هذه الأفكار الرجعية ونرفض وصل التدين بالأفكار الرجعية والتأخر ونرجع لإتباع أفكار أجدادنا العظيمة.
أما الذين يريدون توجيه بعض الشتائم بعد هذه المقالة فأرجوهم أن يوجهوها أولاً للشيخ محمد عبده وقاسم أمين وهدى شعراوى وطه حسين، إن كان لديهم الشجاعة.
ملحوظة
وراثة الرياح فيلم مأخوذ على قصة حقيقية حدثت فى ولاية ((Tennessee التى انتهت المحاكمة التى حدثت عام 1925 بإدانة مدرس الأحياء فى مدرسة ثانوية بالولاية التى كان القانون بها يحرم ويمنع تدريس نظرية التطور وخسر بعدها المدرس الشاب (Scope)كل مراحل الاستئناف بالمحالكم الأعلى درجة، لكن فى عام 1968 حكمت المحكمة الدستورية الفيدرالية بالولايات المتحدة بعدم دستورية هذا القانون.