الصدق هو الإخبار عن الشىء على ما هو عليه، والكذب هو الإخبار عن الشىء بخلاف ما هو عليه. ويقال: صدق فلان فى الحديث صدقًا: أخبر بالواقع(1).
والصدق يدعو إليه العقل والشرع، بخلاف الكذب. ومن هنا جاز أن تستفيض الأخبار الصادقة، حتى تصل إلى درجة التواتر، ولا يجوز ذلك فى الأخبار الكاذبة(2).
والصدق من الأخلاق الأساسية التى يتفرع عنها غيرها، يقول بعض العلماء: «واعلم -رحمك الله- أن الصدق والإخلاص: أصل كل حال، فمن الصدق يتشعب الصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس، وعن الإخلاص يتشعب اليقين، والخوف، والمحبة، والإجلال، والحياء، والتعظيم... فالصدق فى ثلاثة أشياء لا تتم إلا به: صدق القلب بالإيمان تحقيقًا، وصدق النية فى الأعمال، وصدق اللفظ فى الكلام»(3).
وإنما كان الصدق فضيلة؛ لأنه أهم الأسس التى تبنى عليها المجتمعات، ولولاه ما بقى المجتمع؛ ذلك لأنه لابد للمجتمع من أن يتفاهم أفراده بعضهم مع بعض، ومن غير التفاهم لا يمكن أن يتعاونوا، وقد وضعت اللغات لهذا التفاهم الذى لا يمكن أن يعيشوا بدونه، ومعنى الإفهام أن يوصل الإنسان ما فى نفسه من الحقائق إلى الآخرين، وهذا هو الصدق(4).
وقد حث الإسلام على الصدق وبيّن فضائله، وأكد أنه من صفات النبوة، يقول تعالى { وَاذْكُرْ
فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا } [مريم:41]، ويقول الله تعالى: }وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا } [مريم:54] وأمر عباده المؤمنين بالصدق، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119].
ومن أهم فضائل الصدق:
1- أن الصدق فى القول يؤدى إلى الصدق فى العمل والصلاح فى الأحوال:
يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب:70-71]. فالصدق فى القول يؤدى إلى الصدق فى الفعل، وهذا هو العمل الصالح(5).
2- الصدق يهدى الإنسان إلى البر والخير:
يقول – صلى الله عليه وسلم-: «إن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»(6).
والبر الذى يهدى إليه الصدق هو الذى بيّنه الله - عز وجل - فى قوله تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة:177].
3- الصدق فيه النجاة:
يقول تعالى: { قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِى اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [المائدة:119]. أى أن صدقهم فى الدنيا ينفعهم فى الآخرة.
وفى الحديث: «تحروا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه، فإن فيه النجاة»(7).
وعن عبد الله بن عمرو - رضى الله عنهما- أن رجلا جاء إلى النبى – صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما عمل الجنة؟ قال: «الصدق، إذا صدق العبد بر، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة»، قال: يا رسول الله، وما عمل النار؟ قال: «الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار»(8).
4- الصدق فيه الربح والفوز:
يقول ابن عباس - رضى الله عنهما: «أربع من كن فيه ربح: الصدق، والحياء وحسن الخلق، والشكر». وعن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما- أن النبى – صلى الله عليه وسلم - قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة فى طعمة»(9).
مراتب الصدق:
أشار الإمام أبو حامد الغزالى(10) إلى أن للصدق مراتب عديدة نلخصها فيما يلى:
1- صدق اللسان: وذلك لا يكون إلا فى الأخبار أو فيما يتضمن الأخبار ماضيًا أو مستقبلا، ويندرج تحته الوفاء بالوعد والخلف فيه. وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه، فلا يتكلم إلا بالصدق. وهذا هو أشهر أنواع الصدق وأشهرها.
2- الصدق فى النية والإرادة: ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو ألا يكون له باعث فى الحركات والسكنات إلا الله تعالى. فإن مازجه شوب من حظوظ النفس، بطل صدق النية، ويجوز أن يسمى صاحبه كذابًا.
3- صدق العزم: فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل، فيقول فى نفسه، إن أعطانى الله تعالى ولاية عدلت فيها. فهذه عزيمة تحتاج إلى صدق؛ لأنه بمنزلة التمام والقوة لها كيلا يضعف أو يتغير وقت التنفيذ. ولذلك روى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف -رضى الله عنه- أن النبى – صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه».
4- الوفاء بالعزم: ذلك أن النفس قد تسخو بالعزم فى الحال، إذ لا مشقة فى الوعد والعزم. لكن إذا حقت الحقائق وحصل التمكن، وهاجت الشهوات، انحلت العزيمة، ولم يتفق الوفاء، ولهذا مدح الله تعالى هؤلاء المؤمنين الذى وفوا بعزائمهم فقال سبحانه { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب:23].
5- الصدق فى الأعمال: وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر فى باطنه لا يتصف هو به، وعلى المسلم هنا أن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر.
6- الصدق فى مقامات الدين: وهو أعلى الدرجات وأعزها، ومن أمثلته: الصدق فى الخوف، والرجاء، والتعظيم، والزهد، والرضا، والتوكل، وحب الله تعالى، ورسوله – صلى الله عليه وسلم.
آثار الصدق ونتائجه:
للصدق آثار عظيمة، ونتائج جليلة منها(11):
1- للصدق رابطة قوية بالإيمان، فالصادق قوى الإيمان، والكاذب لا إيمان له، فقد سأل الصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا(12).
2- الصدق يجعل صاحبه قليل الكلام، محتاط فى استعماله، حتى لا يقع فى زلات كثيرة، فإذا وجدت الرجل يكثر الكلام، فاعلم أنه على خطر عظيم، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»(13).
3- الصدق يدعو صاحبه للجرأة والشجاعة؛ لأنه ثابت لا يتلون، ولأنه واثق لا يتردد، ولذلك جاء فى تعريفات الصدق: «القول بالحق فى مواطن الهلكة»(14).
4- من آثار الصدق -أيضًا- تفريج الهم، والنجاة من الكرب، كما فى قصة كعب بن مالك - رضى الله عنه- وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك دون عذر، فقد عاقبهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بنهى المسلمين عن كلامهم خمسين يومًا، وقد شق ذلك عليهم، واستغل أعداء الإسلام هذه الفرصة، فاتصل ملك غسان بكعب، يعرض عليه أن يلجأ إليه، فيواسيه، ويترك الإسلام، فرفض كعب، ولما تاب الله عليهم ذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقال له: «يا رسول الله إن الله إنما أنجانى بالصدق، وإن من توبتى ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت»(15).
5- من آثار الصدق -أيضًا- الهدوء النفسى والطمأنينة القلبية، يقول النبى – صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلا ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة»(16). إن الإسلام لا يعلِّم المسلمين فضيلة الكلمة الصادقة وحسب، ولكنه يعلمهم أيضًا كيف يجب أن يكون تلقيهم لها، وكيف يجب أن تكون كفالتهم لها ولأهلها، وكيف يجب أن يكون مسلكهم إزاء الكذب والتضليل.
ولا يدين الإسلام الكذب وحسب، ولكنه يميز بين ضروب من الرذائل، ودرجات من الإثم، كلها تتصل بانتهاك المعرفة الصحيحة(17). والمسلم الحق هو الذى لا يستحل الكذب أبدًا، مهما نال بسببه من مكاسب، فما قيمة مكسب دنيوى رخيص يغضب الله عز وجل!!
وعلى الذين يحلفون كذبًا لترويج سلعة ما، أن يتوبوا إلى ربهم، ويعلموا أن هذا حرام وباطل، وأن بركته ضائعة. وعلى أصحاب المهن والصنائع أيضًا، أن يستغفروا ربهم من تلك الذنوب التى يقعون فيها، نتيجة المماطلة وخلف الوعد وتغيير العقود والعهود. ومثلهم -أيضًا- أصحاب الولايات والمناصب، الذين يصرحون بأنهم سيفعلون كذا وكذا، وتتعلق أفئدة الجمهور بهم، ثم لا يفوا بمعشار ما أعلنوا. وكان بإمكانهم أن يؤجلوا الإعلان بعد العمل، حتى لا تضعف ثقة الجمهور فيهم، ولا يقتدى بهم العامة، فيظهر الفساد فى البر والبحر. ـــــــــــــــــ
(1) المعجم الوسيط، 1/530
(2) أدب الدنيا والدين، الماوردى، ص 260-261.
(3) رسالة المسترشدين، المحاسبى، ص 171.
(4) كتاب الأخلاق، أحمد أمين، ص 199-200.
(5) الأخلاق الإسلامية، د. عبد اللطيف العبد، ص 151-152.
(6) مكارم الأخلاق، ابن أبى الدنيا، ص 45، رواه البخارى عن عبد الله بن مسعود.
(7) رواه ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت عن منصور بن المعتمر مرسلاً، وحسنه السيوطى فى الجامع الصغير، وكنز العمال، 3/345.
(8) رواه أحمد، وانظر الترغيب والترهيب، 4/53.
(9) رواه الطبرانى والحاكم وحسنه السيوطى فى الجامع الصغير.
(10) إحياء علوم الدين، 4/387-393.
(11) الأخلاق الإسلامية، حسن السعيد المرسى، ص 165-166.
(12) موطأ مالك، 2/990.
(13) رواه مسلم وأبو داود، وانظر جامع الأصول حديث رقم: 8189.
(14) تهذيب مدارج السالكين، ص 398.
(15) صحيح مسلم، كتاب التوبة، 4/2120.
(16) الترغيب والترهيب، 3/558.
(17) الفضائل الخلقية فى الإسلام، ص 137-138.