نحن نعرف عبقر القديمة، أو نسمع عنها على الأقل، لكننا لا نعرف عبقر الجديدة ولا نسمع عنها.
وعبقر القديمة قرية أو وادٍ فى الصحراء العربية، تسكنه الجن التى ينسب لها العرب القدماء والمحدثون طاقات وقوى أسطورية، فهى مخلوقات رائعة الحسن تشبه بها كل امرأة جميلة أو رجل وسيم كما جاء فى بيت الأعشى «كهولاً وشباناً كجنة عبقر».
وهى مخلوقات فائقة القدرة تصنع ما يعجز البشر عن صنعه، وتصل إلى الغاية التى يطلبها الناس ولا يدركونها، وفى هذا يقول أبوالعلاء:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما
رأوا حسناً عدوه من صنعة الجن!
هكذا كان العرب يرون صنعة الجن، وهكذا يراها أيضاً الأوروبيون الذين يسمون كل عقل نابغ أو كل عمل رائع جينيال GENIAL أو GINUS، مما يدفع إلى الظن بوجود قرابة لغوية بين كلمة «جن»، العربية وكلمة «GENIE» الفرنسية ومعناها العبقرية.
لكن الكلمة الأوروبية موجودة فى اللغة اللاتينية، فلها إذن أصل لاتينى قديم، كما أن الكلمة العربية قديمة ومشتقة من الأصل الذى اشتقت منه مفردات عربية كثيرة تدل على ما يختفى ويستتر أو ما يخفى ويستر كالجنان أى القلب، والجنين، والجنون الذى يغيب به العقل، والمجن، والجنة بضم الجيم أى الوقاية وفى «لسان العرب» لابن منظور أن الجن أو الجان سميت كذلك لاستتارهم واختفائهم عن الأنظار.
فإذا لم تكن بين الكلمتين العربية والأوروبية قرابة لغوية فهما تدلان على قرابة عقلية أكيدة يرتبط فيها الجميل والمتفوق بالخفى والمستتر، أو بما يتجاوز الطاقة البشرية ولا يخضع لمنطق العقل، وهكذا يكون التفوق نوعاً من الجنون أو أن أحدهما يؤدى للآخر، فالمجنون يرى ما لايراه سواه، والجميل يخرجه جماله من حدود العقل ويدفع به إلى الجنون كما نفهم من أسطورة نرجس أو نرسيس.
وكان نرسيس فى الأسطورة اليونانية القديمة فتى جميل الصورة وقد مر على نبع ماء فحانت منه التفاته إلى صورته التى انعكست على صفحته الساجية فأخذه جمالها حتى لم يعد قادراً على أن يحول عينيه عنها، وظل عاجزاً فى الوقت ذاته عن أن يطفئ ظمأه لمعانقتها، حتى مات فنبتت على حافة النبع فى المكان الذى مات فيه الزهرة التى حملت اسمه، وبقيت تنظر هى الأخرى إلى صورتها فى الماء.
الجمال هنا يرتبط بالظمأ القاتل للوصال الجسدى، والعجز عن الوصال يذهب العقل ويؤدى فى النهاية إلى الهلاك.
وللشنفرى الشاعر الصعلوك القديم بيت رائع استطاع أن يقبض فيه على هذا المعنى الرائع، وهو الذى يقول فيه عن المرأة الجميلة، فدقت، وجلت، واسبكرت، وأكملت
فلو جن إنسان من الحسن جنت!
وفى كلمة أخرى منسوبة لرجل يدعى الحسن أن ابن آدم «لو أصاب فى كل شىء جن»! أى خرج من بشريته التى لا يستطيع فيها أن يتجنب الوقوع فى الخطأ، وصار جناً يصيب فى كل ما يفعل ويقول.
الجميل إذن والكامل والفائق والمعجز ينسب للجن، لأن البشر جنس تجتمع فيه النقائض: القدرة والعجز، والصواب والخطأ، والجمال والقبح، والخير والشر، فإذا تفوق أحدهم على نفسه وأصبح مثلاً فى القدرة أو الحكمة أو الإصابة أو الجمال نسب إلى الجن، أو إلى عبقر التى يسكنها الجن فقيل عبقرى، كما فى الآية السادسة والسبعين من سورة الرحمن، وفيها يقول تعالى عن أهل الجنة وما يتمتعون به: «متكئين على رفرف خضر وعبقرى حسان»، وقد أصبحنا نميل فى هذا العصر إلى استخدام النسبة الأخيرة فنشيد بالعباقرة وبإنجازاتهم العبقرية على حين كان القدماء ينسبون للجن أو للشياطين ما يجدونه رائعاً جميلاً.
وقد حدثتكم فى الأسبوع الماضى عن شياطين الشعراء القدماء كمسحل شيطان الأعشى، وعمرو شيطان المخبل، وسنقناق شيطان بشار، فبوسعنا الآن وقد أتممنا حديثنا عن عبقر القديمة وأهلها أن نودعهم ونودعها لنتحدث عن عبقر الجديدة وأهلها.
وعبقر الجديدة قصيدة طويلة فى اثنى عشر نشيداً يبلغ عدد أبياتها حوالى ستمائة بيت، يصف فيها صاحبها الشاعر اللبنانى المهجرى شفيق المعلوف رحلة خيالية قام بها وهو بين الحلم واليقظة إلى وادى عبقر إذ ظهر له فجأة شيطان شعره مقترحاً عليه أن يحمله إلى تلك القرية الخفية التى تسكنها شياطين الشعراء:
عبقر لغز الغيب ما وطئت
أكنافها إلا لأربابها
فقم وخض لجة ديجورها
واعمل على تمزيق جلبابها
قم فترى كيف شياطينها
تطل فى عينيك من بابها
وكيف من فيك ثعابينها
تنسل من فوهة سردابها
وانظر إلى الغيلان فى وجرها
تصم أذنيك بتصخابها
شرور ماضيك التى أقبلت
تكشر فى وجهك عن نابها
جمعها كر الزمان الذى
مر، وفى صدرك ألقى بها!
ومن النشيد الأول إلى النشيد الثانى الذى تتحدث فيه عرافة عبقر إلى هذا الإنسى الذى هبط القرية يخيف الجان ويثير ذعرهم بما يعرفونه من شرور البشر ومكرهم وريائهم، ثم ينتقل من النشيد الثالث ليتحدث عن السعلاة، وهى ساحرة الجن التى يقال إنها تتغول السفار لتضلهم وتلقى بهم للتهلكة ومن السعلاة إلى نهر الغى الذى زعموا أنه يجرى فى جهنم.
ومن نهر الغى إلى وادى سجين حيث إبليس وجنوده وأبناؤه ثبر شيطان الحروب، وداسم إبليس النقائص، وأعور إبليس الشهوة، ومسوط إبليس الكذب، وزلنبور شيطان المال.
فى النشيد السادس نجد شيطانى الشعر الهوبر الذى يحسن الإيحاء، والهوجل الذى يفسده، وفى السابع نلتقى بشيطان آخر هو هراء الموكل بقبيح الأحلام، ثم نستمع إلى الكاهنين الحكيمين شق وسطيح، وكان الكاهن الأول شق إنسان له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، أما سطيح فكان لحما بلا عظم.
وفى النشيد التاسع يحدثنا الشاعر عن ثورة البغايا اللائى قذف بهن إلى الجحيم:
نحن الفراشات بنات الصباح
إن صعد الصباح أنفاسه
نراه قد مد لنا كاسه
فنمتطى إليه متن الرياح
أزمنة اللهو انقضى نصفها
وصدرنا وسادة للجباه
فإن دنت من الشفاه الشفاه
نهزها هزاً ونشتفها
كشارب الخمرة يدنيها
منه، فكم تزيد من لذته
خضخضة الكاسات فى قبضته
من قبل أن يمتص ما فيها!
كان لنا شعاع أحداقنا
فأقبل الليل وأطفاه
والجسد البض تركناه
تدوسه أقدام عشاقنا
مذ خلع الله علينا المقل
زودنا بنظرة ضائعة
وشهوة ملحة جائعة
وبشرة هفافة للقبل
ثرنا عليه حينما سامنا
عسفا فلم نصبر على عسفه
قد حشد اللذات قدامنا
وجيش العذاب من خلفه!
عبقر الجديدة إذن ليست مجرد قرية للجن أو لشياطين الشعر كما كان يعتقد القدماء، وإنما هى العالم الآخر الذى اجتمعت فيه كل الأساطير العربية التى يرى الشاعر أنها ليست محض خيال، وإنما هى رموز لأحلامنا ومخاوفنا، وفضائلنا ورذائلنا، فإن نظرنا إلى أبطالها وجدناهم صوراً مما يعتمل فى صدورنا من المشاعر والغرائز والرغبات!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة