الفرق بين كبارى اليوم والزمن الجميل مثل السماء والأرض.. شتان بين كبارى صممها فنانون عالميون مزينة بالتماثيل، كانت واجهة لمصر الجميلة وكبارى اليوم الخرسانية.. شتان بين مرتادى الكبارى من عشاق ومنتحرى زمان وحبيبة اليوم التيك أوى..
لو قدر وتمشى أحد عشاق زمان فوق كبارى مصر الآن.. ورصد ما جرى على تصميمها ونوعية عشاقها وسياراتها.. فسوف يلعن ويحلف بأغلظ الأيمان بأن يهجرها ولا يتنزه فوقها للأبد..
كبارى مصر اليوم خليط قليلها مازال يحمل عبق الزمن الجميل.. يقف متحديا الزمن منذ عصر الخديوى إسماعيل ومن بعده فؤاد.. كوبرى قصر النيل وأبو العلا وإمبابة وغيرها.. تحف معمارية تزين وجه مصر..
جاءوا بأشهر المثالين والمصورين والمصممين الفرنسيين، ليصنعوا التماثيل والكبارى من الحديد والبرونز ليعبر من فوقها كوكبة من ملوك وأمراء العالم أوجينى إمبراطورة فرنسا، وفرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا. وبمرور الوقت تحولت إلى "فسحة" للبسطاء والعاشقين فى لحظات الخلسة التى يسرقونها من رحاية الزمن..
بين العشاق والكبارى علاقة وطيدة منذ نشأة أول كبرى بمصر.. تطورا معا بمرور العصور.. فمثلما كانت الكبارى تحفا فنية كان العشق روحانيا وهندام العاشق كلاسيكية.. يأتى منفردا بنفسه كلما داهمه الشوق والحنين والبكاء على محبوبته.. وقتها كان يستحيل رؤيتها والحديث إليها بصورة مباشرة.. يقف يتابع صفح النيل وهو يحمل على أكتافه المراكب وخطابات العشاق.. ينتصب يناجى النيل ويحمله باقات الورد وخطابات الغرام التى ظل يكتبها طوال الليل مصحوبة ببعض حبيبات الدموع.
ولكن بعد الثورة تطور الحال والعلاقة بين الكبارى والعشاق.. فزحت الكبارى الخرسانية، وفرجت الحياة الاجتماعية أمام العشاق.. وأتاحت لهم لبس الملابس المستوردة "الشالستون" وفتح أزرار القمصان ومقابلة بعضهم، بشرط وجود "محرم" قد تكون بنت جيران أو صديقة حميمة للطرفين، مع شرط أن يحتفظا بمسافة لا تقل عن 10 أمتار بينهما.. كل منهما يختلس النظر و"يستحلف" النيل عن أخباره بمضمون رسائل حبيبة..
ومع مرور الأيام تطور الحال وانكمشت المسافة بين العاشقين وشيئا فشيئا تحول "المحرم" إلى عزول ثقيل الدم لا يقبلان به.. أما كتابة الذكريات على حواف وأعمدة الكبارى فقد تغيرت وتبدلت وتطورت.. بدأت بالنقش بأطراف الخناجر والمسامير التى كان يحملها العاشق ليسجل عشقه للأجيال التالية.. وحينما دخل التعليم مصر ظهرت الكتابة بالطباشير والجير.. ورسمت القلوب وبداخلها رماح الحب تحمل الحروف الأولى للعاشقين.. وأحيانا قطرات من الحبر الأحمر كلما قسى الأهل فى موضوع زواج العشاق..
ومنذ عشرة سنوات أزيلت بعض التحف المعمارية وتبدلت بالكبارى الخرسانية.. قابلها انتشار الجينز الساقط حتى الركب، وكتكتة الشعر واختفاء المعالم الشكلية التى تفصل فى التفاصيل بين الحبيب والمحبوبة، وتوسعت الحريات الشخصية.. وضاعت المسافات وتقابلت الشفاه ولم يعد العاشقان يحفلان بما يدور حولهما وهما مستغرقان فى لذة حبهما.. وظهرت الهدايا والقلوب الحمراء والكتابة بأقلام الرصاص والفلومستر.. وتشابكت الأيادى وخطفت القبل السريعة.
أما عن الانتحار فكانت أعداده كبيرة فى زمن العشق الروحانى.. بين العشاق الرجال.. كلما اكتشف ضياع محبوبته بسبب فرمان أسرتها للزواج الإجبارى من شخص آخر.. ومع الزمن قل انتحار الحبيب بمفرده، وكثر الانتحار الجماعى بين العاشقين، ولكن مع تغيير معنى الحب اكتفوا بالبكاء على سطح النيل.. وأصبح كل يوم يبدل العاشق معشوقته، وتختار المعشوقة بديلا لحبيبها.. وانتهى زمن انتحار العشاق من فوق الكبارى واقتصر على طلبة الثانوية أو أشخاص يهربون من مسئولية أسرته.
زمان.. كانت العربات التى تمر على الكبارى قليلة.. أغلبها من الأتوبيسات العامة.. ركابها ينتشون ويخجلون وهم يحملقون فى العشاق.. بعدها ظهرت على استحياء السيارات الخاصة يقودها أناس عواجيز لا يتحملون ارتياد المرافق العامة.. كانوا يحملقون أثناء مرورهم على الكبارى، لو رأوا أن المسافة بين العاشقين اقتربت، يخول المجتمع لهم بأن يتوقفوا وسط الكوبرى ويطاردون العاشقين بالعصى الغليظة.. مع الأيام ارتفع عدد السيارات الخاصة وأصبح العشاق يستقلونها فوق الكبارى.. ومنذ عشر سنوات تحولت فوق الكبارى لمنازل يمارس فيها العشاق كل حبهم.
زمان تحولت الكبارى إلى مكان لأكل العيش.. وبدأت ببيع البيض والسميط والدقة، بعدها تفنن البائعون الجائلون واقتنوا أجهزة الراديو ووضعوها فوق عربات خشبية تحمل الكولا والترمس، والذرة المشوية، تصدح بأغانى أسمهان وأم كلثوم وعبد الحليم.. تثير فى العاشقين الذكريات واللحظات الجميلة.. مع زحف الكبارى الأسمنتية اختلط البائعون بأطفال الشوارع يطاردون العشاق بالورد وطلب حسنة لله.. بعدها حدث احتلال لأرصفة الكبارى وتحولت إلى محلات متنقلة يشرف عليها البلطجية.. ولم يعد العشاق يجدون مكانا خاويا يضعون فيه أقدامهم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة