خلال واحد وعشرين عاما فى بلاط الصحافة، قرأت وحصلت على مئات الأوراق والمذكرات التى تحمل عبارة "سرى جدا"، بعضها صادر عن وزارات مصرية مهمة، والبعض الآخر من مكاتب رؤساء وملوك عرب، وكان الحصول على أى من هذه الأوراق يعتبر سبقا صحفيا مهماً يستدعى النشر بغض النظر عن المضمون.. وبعد سنوات من العمل والخبرة اتضح لى أن كثيرا من هذه الأوراق السرية لا يستحق ثمن الورق الذى كتبت عليه، وأنها من التفاهة بحيث لا تستحق هذا التصنيف.
وأتذكر خلال عملى بمجلة الأهرام العربى، أننى نشرت محضر لقاء تم بين الرئيسين الأمريكى بيل كلينتون والرئيس الفلسطينى ياسر عرفات فى البيت الأبيض بواشنطن، وقامت الدنيا ولم تقعد، وحين طلب مسئولو التحرير صورة من المحضر أخرجت لهم الأصل الصادر من مكتب الرئيس أبو عمار رحمه الله.
بعض ما حصلت عليه من وثائق ومستندات سرية احتفظت به ولم أنشره، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على حصولى عليه، لأن نشره يمكن أن يؤدى إلى توتر فى علاقات مصر بدول أخرى، وهو قيد كبير يفرضه الصحفى على نفسه، حين يعلى مصلحة الوطن على مجرد سبق صحفى يمثل فائدة شخصية لصاحبه، لكن مضاره أكثر من فوائده، على الوطن والمجتمع.
وخلال الأيام الماضية نشرت الصحف الخطة الأمنية لتأمين ونقل امتحانات الثانوية العامة، بعد تسربها من وزارة التعليم، وحين قررت الصحف نشر هذه الوثائق الممهورة بعبارة "سرى جدا"، لم تكشف الخطة الأمنية على الملأ فقط، وإنما وجهت رسالة للمسئولين عن التعليم مفادها أن وصولها إلى الصحافة معناه سهولة تسربها إلى الناس، وبالتالى يمكن الحصول على أسئلة الامتحانات وبيعها فى الأكشاك كما حدث العام الماضى.
وأعتقد أن الإفراط فى استخدام عبارة "سرى جدا" على معظم المكاتبات الحكومية، أفقدها أهميتها ومعناها، فقد أصبح مألوفا أن تطبع عبارة سرى جدا على كل الأوراق الخارجة من مكاتب الوزراء، ولأن الكثير من هذه الأوراق لا يتسم بأية سرية، ويندرج فى إطار المعاملات اليومية العادية وأحيانا التافهة جدا، فقد تعامل معها الموظفون فى المكاتب على أنها كلام فارغ لا يستدعى الاهتمام أو التحوط.
ولم يعد ما هو مكتوب عليه سرى سرياً، ولا مهماً ولا يستدعى الكتمان، بينما الموضوعات والأوراق السرية فعلا ملقاه فى الشوارع، لدرجة أنه لا توجد دولة فى العالم تتسرب فيها الأوراق والوثائق الحكومية بنفس القدر الذى نراه فى مصر!
وحسنا فعلت وزارة التعليم بالإعلان عن إلغاء خطة نقل وتأمين أسئلة الثانوية العامة التى نشرتها الصحف، لكن فى ضوء ما حدث وما اعتدناه من إهمال حكومى فى الموضوعات التى تستحق الاهتمام، وتسيب فى الموضوعات التى يجب أن تتسم بالسرية، أتوقع أن تنشر الخطة الجديدة فى الصحف أيضا وأن تتسرب للناس، وأن يتكرر سيناريو بيع الامتحانات بعد تسريبها، خاصة وقد قرأنا قبل يومين خبرا عن تسرب امتحان الإعدادية فى قنا وإلغاء الامتحان وإعادته مرة أخرى.
المشكلة ليست فقط فى الإهمال الحكومى البادى للعيان، وإنما فى انهيار مبدأ تكافؤ الفرص، فلم يعد مهماً أن يجتهد الطالب لنيل النجاح، يكفيه أن يشترى له والده الأسئلة والإجابات من السوبر ماركت.. والمشكلة الأكبر أننا نعلم أبناءنا بهذا السلوك أنه لا مكان للقيم فى مجتمعنا، فمن يملك المال يستطيع شراء كل شىء، من الشهادة التعليمية، والوظيفة المحترمة، والمقعد النيابى، وأخيرا وصلنا إلى ظاهرة الوزراء رجال الأعمال الذين حصلوا على المنصب الوزارى بفلوسهم.. يا عينى عليكى يا مصر!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة