روبابيكيا .. قصة قصيرة لمدحت عابد

الإثنين، 25 مايو 2009 01:55 م
روبابيكيا .. قصة قصيرة لمدحت عابد ها هى أمام العمارة، ذات طلاء فضى لامع بهجة للناظرين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يتجاوران على زاوية السفرة، ثم يسبقها إلى مجلس الشرفة اليومى آخر النهار، تحت البغدادلى المزين باللبلاب وست الحسن، حيث كرسيان من الجريد. يجلس فى الجلباب وبيده المسبحة المنظومة من الجعران الأصيل. تأتى بالشاى منتظرة كلماته.. "تسلم الأيادى يا ستو"، تحب أن يناديها "ستو" استعارة من حفيدهما الوحيد تحمل من المعانى أكثر من مجرد الدعابة، وهو الذى حيل دونه حيث انتقل مع والديه إلى ذلك البلد العربى. هدوء الشارع تحت الشرفة من الطابق الثانى يتيح أن يهيما من آهات أم كلثوم.. "ذكريات.. كيف أنساها وقلبى.. لم يزل يسكن جنبى.."

يجالس ضيوفه من الأصدقاء والأصهار على ذلك الصالون القيم على وجه ما، بين الكئوس متباينة الأطوال المتراصة على الأرفف.. يحكى عن بطولاته فى السباحة واحتكاره بطولة النادى لسنوات وكيف حرمته ظروف الحرب من التمثيل فى البطولات العالمية، يستخدم أضخم المفردات عندما يصف تلك القشعريرة التى كانت تنتابه لحظة أن يتسلم كأساً لبطولة.. يصفق الجميع وينطلق اسمك عبر مكبر الصوت تعلو به تيارات الهواء إلى عنان السماء وتترقرق لعينيك صفحة الحمام.. "النشوة.. الثقة.. الذات.. الهدف". يخال بصمات الفتوة مازالت موشومة على تلك الكئوس.

لكن مفردات أخرى مثل عرق النثا وأملاح الكلى والروماتيزم تضاف الآن إلى معجم حياتك، تلك التى تجعل من الشتاء كابوساً طويلاً يتطور فيه السؤال العادى "إزاى صحتك؟" ويتجاوز معنى التحية بإضافة بسيطة "إزاى صحتك دلوقت؟".

يقرر شراء سيارة ويفاجئها بسرعة التنفيذ. ها هى أمام باب العمارة تبتلع مكافأة المعاش، ذات طلاء فضى لامع بهجة للناظرين، تسأله مندهشة "نعمل بيها إيه؟".

ـ "بكرة نحتاجها"
أوصى البواب بغسيلها أسبوعياً "من تراب الشارع". فى السادسة صباحاً يسخن البطارية ويستغل الشوارع الخالية حتى محطة البنزين ليزيد هواء الإطارات كل فترة، ويعود ليجعلها أمام عينية تحت الشرفة، يصرخ فى ذلك الشاب المتوكئ عليها "ابعد عن العربية يا بارد، هتكسر المراية".

رأى أن يزودها بجهاز إنذار يفضح كل متطفل فيخرج هو إلى الشرفة ويعطيه نصيباً جزلاً من السب. ومثلما أوحى يعقوب بفكرة الذئب لإخوة يوسف، وضع هو قواعد اللعبة للعيال الشياطين. يمسكون بمقبض الباب حتى يعمل الإنذار ويفرون ضاحكين أمام عينية.. وتكاد العروق تنفجر فى عنقه "يا ابن الكلب يا سافل يا..". يثيره أكثر أن يسمع صوته متغيراً يضج فى عمق الشارع كقاتل يرى دفقة الدم الأولى فينهال بالطعنات الهستيرية.

شدد عليها الطبيب أن التهاون يؤدى حتماً لوصول الروماتيزم إلى القلب وهى المشكلة الأخطر. وبإصرار بطل قديم، يرفض جميع الأدوية قانعاً بكفاف اللقيمات، وما تزيده توسلاتها وآلامه إلا عناداً.

يتسرب صوتها إلى سريره فى هدوء القيلولة، تتحدث عبر الهاتف إلى أختها عن حال صحته .. يقع فى قلبك كأن العالم يتآمر ضدك لحظة أن تسمع فى كلامها ضمير الغائب المشير إليك وأنها تتلو بأسماء الأدوية المعقدة تعوذية مجهولة تحيط بك الخوف.

بدأت أعمال الحفر فى الشارع لتطوير شبكة الصرف، أخرجت الأرض أثقالها ويضطر الآن لنقل سيارته الجديدة إلى الشارع الخلفى متجاهلاً نصيحة البواب بأن يغطيها. وليطمئن قلبه، يذهب هناك ويجىء عدة مرات يومياً، يفحص الإطارات والصاج والفوانيس والمرايا والمساحات "ممكن واحد غبى يحكها وهو بيركن عربيتة أو واد ابن حرام بيلعب يخدشها بمسمار أو حاجة". فى كل مرة تخطو فوق ركامات الأتربة غير واثق فى قدميك، تهتز من داخلك. شىء سخيف.. كأن ظهرك للحائط تحاصرك أقنعة ضاحكة جوفاء العين .

يعتدل الآن مزاجه بعد أن أعيد تمهيد الشارع وعادت تحت عينية وإلا لما قبل الدعوة لزفاف كريمة جاره. تقترح أثناء وقوفه يسترضى مرآة الغرفة.
- "نروح بالعربية ولو مش قادر تسوق ممكن أى حد يسوقها"
- "مالوش لزوم، ممكن نركب تاكسى أو نتصرف". ونهاية الأمر فضل أن يحشر نفسه وزوجته فى المقعد الخلفى لسيارة أحد المدعوين وقد وضع صورته فى إطار كذبة مكشوفة "عطلانة". يميل على أذن زوجته من خلف رأس الطفل الجالس مكبوتاً فى حجرها وهى تظل تشيح بوجهها ناحية النافذة "العين وحشة برضة".

بعد ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، حرص على تجديد الرخصة فى إدارة المرور استقبلته بينما يجلس ليحل رباط حذائه بعد مشوار مرهق "بلد وسخة بلد بنت كلب".
- حصل إيه؟"
- "واخدين مخالفة فى شارع صلاح سالم وأنا أصلاً مارحتش شارع صلاح زفت"
- تعلق بابتسامة غير صافية "الصيت ولا الغنى.

تأتى بالجريدة تبسطها أمام عينيه على السفرة.
- إيه رأيك؟؟ شاليهات على البحر على طول ومش غالية قوى ونبقى نقضى الصيف كله.
- "منين؟".
- "نبيع العربية إحنا مش محتاجينها".
- "دى عربيتى ومش هبيع حاجة"
- يستفزها أن صادر النقاش:
- "دى مش عيشة، طول النهار مفيش وراك غير المصيبة دى ومش واخدين منها غير المشاكل"
- يصيح وتتطاير شظايا لعابة:
- "لو مش عجباكى العيشة مع السلامة".
- يتحشرج حلقها "أنا إخواتى باشاوات البلد يشيلونى فوق رأسهم"
وتنفجر بكاء: " أصل دى آخرتها
- "فى ستين داهية أنا عارف إن نفسك أموت و.."
- يسمع صوت جهاز الإنذار. يهرع إلى الشرفة:
- "انت يا حيوان"





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة