" أساطير رجل الثلاثاء " رواية للكاتب صبحى موسى

الإثنين، 25 مايو 2009 11:10 م
" أساطير رجل الثلاثاء " رواية للكاتب صبحى موسى الكاتب صبحى موسى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" من أساطير رجل الثلاثاء " ، رواية جديدة للكاتب صبحى موسى ، تدور أحداثها عن شخصية ما بين الواقع والخيال يمكن تسميتها بأسامة بن لادن ، ويمكن تسمية رجاله برجال القلعة أو القعدة ، لكنهم جميعاً أقرب إلى الأساطير ، لأنهم ولدوا بما لديهم من أخطاء ونجاحات من رحم أسطورة كبيرة ، أنتجت الآلف على شاكلتهم ، وعلى النقيض التام لهم ، تاليا فصل من الرواية..

أبو سعيد لا يخلف موعده

توقف قطار المترو أمام المحطة التي كان من المنتظر أن أجد فيها أبا سعيد ، كان الموعد قد ضُرب بيننا منذ عدة أسابيع ، حفظته عن ظهر قلب ولم أبح به لأحد حسبما طلب مني ، لا أعرف بالضبط ما المهمة التي ترك باريس من أجلها منذ عام ونصف ، لكنه فجأة جاء إلى مكتبي في لندن قائلاً أنه سيرحل في جولة طويلة لا يعرف متى ستنتهي ، فوجئت بالخبر ولم أعرف بما أرد عليه ، فمنذ تعودت الذهاب إلى مسجد الصحابة على حدود باريس وأنا أعتبره منقذي من الضلال ، رويت له الكثير عني وعن عمارة وأمي وإخوتي وطريقة حياتنا وغربتي الدائمة في عالم لا أشعر فيه بذاتي ، روى لي بدوره الكثير عن نفسه وغربته وفراره الدائم وعلاقته السرية بأبي وحلمهما بعالم إسلامي موحد ترفرف عليه راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ، كانت له طريقة مبهرة في الحكي والنصح ، لا أكذب حين أقول أنني أخذت من اللحظة الأولى بعالم هذا الرجل الفذ البسيط الدمث شديد الذكاء والفراسة ، فأدمنت التردد على مسجد الصحابة منذ أخذ بيدي وألقى السلام على الشيوخ الجالسين أمام المحراب ، قال هذا أبو عبد الرحمن جاء لصلاة العشاء معنا ، وشعرت من ابتساماتهم الهادئة أنهم كانوا ينتظرون مجيئي ، لمح الدهشة على وجهي فخطفني قائلاً هذا أبو عتبة شيخ المسجد ، وهذا الشيخ عبد القادر من تونس دائم السفر فتعرف عليه قبل أن يختفي ، كان رجلاً طويل اللحية ضئيل البنية يكاد يتلاشى لولا عيناه دائمتا الزوغان في المكان كأنهما تبحثان عن شيء ضائع ، وبدت أسماء الشيوخ قديمة مركبة كأبي حفص ،وأبي ذر ، وأبي عبد الله ، وأبي العباس ، ولا أعرف ما الذي دفعه لتلقيبي بأبي عبد الرحمن رغم أن ولدي اسمه عبد الله ، صلينا العشاء وجلست أنصت للحديث الذي يعقبها من أبي عتبة ، كان يومها يفسر الآيات العشر التي نزلت في حق السيدة عائشة ، ولما كان بالمسجد ركن للنساء فقد أخذ يوضح لهن سلوك المرأة المؤمنة في الزى والحركة ، ولما كانت الآيات السابقة على حادث الإفك تعرض لحد الزنا فقد ربط بين الآيات والحادث قائلاً أن الله اختار أحب الزوجات إلى قلب رسوله كي يكون المثل واضحاً وعاماً ، فلا أحد يسلم من الشبهات ، ولا أحد سينزل فيه قرآن يبرئه بعد رسول الله ، ونحن في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر حين انتهى الدرس أسرعت إلى أصحابي المنتظرين في المطعم ، بادروني أين كنت فقلت أبحث عن تذكار أشتريه من المكان ، تباروا جميعاً في الإعلان عن أفضل مكان للشراء منه ، ولم تمر أيام حتى وجدتني أصلى في مسجد الصحابة من جديد ، وجدتني لا أعلم من أمر ديني الكثير ، فرحت أغرق في القراءة وشراء الكتب ، لا أخرج من بيتي إلا للصلاة أو ملاقاة أبي سعيد ، فأهملت دراستي وعملي واعتكفت على ما أنا شارع فيه ، كنت كلما ازددت معرفة شعرت أنني أقل علماً ، وصار اتهامي لنفسي بالجهل أكبر ، حتى فوجئت بأبي سعيد على رأسي ، قال :عزمت على رؤيتك قبل السفر فذهبت إلى مكتبك فأخبروني أنك لا تذهب إليه ، وهاتفك لا يجيب ، فقررت المجيء إلى هنا . أوضحت له الأمر كما أشعر ، فالمكان مليء بالخطايا ، ولي تاريخ أود الهروب منه ، ولن يمنعني سوى الله والعزلة، قال ودراستك ؟ قلت لا حاجة لي بها ؟ قال الإسلام أمرنا بالعلم ، قلت وها أنا أعلم نفسي ، قال أمور الدين وحدها لا تكفي ، راوغته فسألته عن نفسه ولم لم يعد يأتي إلى المسجد ، قال أنه يجهز للسفر منذ أسابيع " سأذهب إلى الأردن ومنها إلى فلسطين أو مصر " ، تعجبت من رحلته المفاجئة إلى الشرق ، فقال : السادات يريد أن يبيع انتصاره ، ونحن نريد أن نمنعه ، والله من فوق كل أمر . ودعته وعدت إلى ما كنت فيه .

لم يأت أبو سعيد في القطار الذي قال عليه ، ولا القطارات التي تليه ، فجلست منتظراً خمس ساعات على رصيف المحطة أحدق في كل متحرك وساكن ، ولما أعياني التعب عدت إلى البيت ، كنت أحتاج الرجل لكن ها هو ، في الوقت الذي أحتاج فيه إليه ، لا يجيء ، رسبت في دراستي ، وعلاقتي بأمي وخالي زادت توتراً ، يطالباني بالعودة وأنا منشغل بغير ما يقولون ، جددت مسجد الصحابة وقمت بتوسعته بعد عدة اتصالات عبر القنصلية مع الحكومة الفرنسية ، كانت التجديدات هدية مني لهؤلاء القابضين على الجمر ، لكن خالي بهاء رأى ذلك إسرافاً لا معنى له ، قلت أن أبي كان يفعل ذلك ويزيد ، قال أين أنت من أبيك ، حتى دراستك لا تعرف كيف تنتهي منها ، وزوجتك هجرتها ولا تراها ، هل هكذا قال الإسلام ؟ كانت كلماته موجعة فاتصلت بأمي لأعرف أخبارها، لكنها كانت أكثر غضباً منه، قالت: زوجتك تتطاول علي، ولو كنت موجوداً لوضعت حداً لها، قلت: ابنة أخيك وأنت التي اخترتها، قالت: حتى أحتويك من الضياع في المدن الغريبة لكنني أسأت الاختيار، هدأت من روعها بأنني سأعود، حين وضعت الهاتف وجدته يرن من جديد، جاءني صوت أبي سعيد دافئاً كما الطيور التي تعود إلى أعشاشها، فرحت به كما يفرح الغريق بطوق النجاة، قلت أحتاجك، قال إني في الطريق، جلست أنتظره كل هذه الأيام، وكل هذه القطارات لكنه لم يأت، هل أصبح الرجل لا يف بالعهود ولا يأت حين يحتاجه محبوه؟! أوقفت السيارة أمام المنزل وصعدت إلى شقتي، بادرني الخادم بأن رجلاً عربياً ينتظرني منذ ساعات، حين التفت وجدته في بذلة كاملة كسفير لدولة لا أعرفها، رحبت به وأعتذر بدوره عن تغيير الموعد إذ ثمة من يلاحقه، حكيت له عن أخباري فنصحني بالعودة وطاعة والدتي، وأمرني بترك البلاد والانتظام في الدراسة لأن الأيام القادمة عصيبة وتحمل ما لا نعرفه، وفي نهاية اللقاء طلب مبلغاً من المال لم يحدده، قال اجعل الشيك باسم ميخائيل بولس أنطونيادس ولا تغلقه، نزعت ورقة من دفتر الشيكات وقعت عليها ولم أحدد المبلغ، في المساء اتصلت أمي تلح في عودتي نهائياً، قلت أنتظر نهاية العام حتى لا يضيع كسابقه، قالت لا يهم فقد رتبت لك الأمر في جامعة الملك، قلت أصدقائي والمكتب وشراء حاجيات لزوجتي وابني، قالت لو لم تصل غداً فلن ترى وجهي مدى الحياة.

تنسم الشيخ رائحة الهواء الطري فحمل مصحفه وسجادة صلاته وتوجه نحو باب الكهف، جلس أمامه وأخذ يحرك مسبحته ووجهه في السماء، لاح في ذهنه شيء فمسح عبرة همت بالنزول على وجنته وقال: رحم الله أبا سعيد كان صاحب هذه الأوقات، فحين تضع الشمس رحلها ويظهر في السماء ضوء أول نجم يترك لقدميه الطريق، فهما تعرفان كل حصاة ونتوء فيه، وعينه لا تنشغل إلا بضوء نجمه الذي يريده وإن لم يظهر، فقد علمته الصحراء والسنون أماكن النجوم ومساراتها، علمته كيف يحفظ صفحة السماء كخطوط يديه.داعبته ذات مرة قائلاً : هل أحببت ؟ فابتسم وهمَّ بقراءة القرآن، كان يعرف ما أرمي إليه، فكل الذين جاءوا إلى الجبال تحدثوا لبعضهم في ساعات الصفا عن حبيبات تعلقوا بهن في الصبا، لكنني لم أسمعه مرة يتحدث عن امرأة في حياته، حتى الصبية التي تزوجها منذ شهور، لم يذكر شيئاً عنها، رغم أنني سمعت من الرجال أنها لم تكمل العشرين، جاءت مع والديها من لبنان إلى بيشاور، حين علم أبوها برغبة الرجل في الزواج أعلن على الفور أنه له ابنة تسمع به وتكاد تعشقه رغم أنها لم تره مطلقاً، ذهب لرؤيتها فتعلق بها قائلاً أنها الفتاة التي رآها في منامه من أيام، أتم الزواج في اليوم التالي وتركها مع أمها وإخوتها وجاء ليكمل جهاده على قمم الجبال وباطن الصخور، يومها نظر لي ملياً والنور يخرج من عينيه ، ثم أخذ في الترتيل من جديد كما لو أنه داوود يقرأه مزاميره على الطير والغيم والجبال، رحمه الله كان واحداً من الباحثين عن الشهادة، ترك الدنيا خلفه وجاء يطلبها في هذه المغارات والكهوف ، لكن ما من مكان طلبها فيه حتى فر الموت من أمامه وانقلب على أعدائه، عشرات الصواريخ ومئات القذائف صوبت عليه، جميعها كانت تختار أن تضرب رؤوسها في الصخر عن الاقتراب منه. كان سمحاً ، لا يترك صلاة دون أن يصيبها على وقتها، في معركته الأخيرة لمح انزواء الشمس عن كبد السماء فصرخ: صلاة العصر يا أبا عبد الرحمن. كان الروس قد حاصرونا من كل جانب، وكانت طائراتهم ومدرعاتهم تصب نيرانها بغلظة لا مثيل لها، فقلت:
ـ أية صلاة يا أبا سعيد ؟ أما ترى ما نحن فيه ؟
ـ مرحا يا أبا عبد الرحمن ، أولا تريد الجنة يا رجل ؟
ـ أريدها .. لكن هل نهرب من قدر الله ؟
ـ نعم .. نهرب من قدر الله لله نفسه
حط رحله على الأرض وكبر فكبرت خلفه ، هي ساعة من نهار كنت ألمح فيها الطائرات تحوم عن قرب ، وأصحابنا يفرون إلى بطون الجبال ، ساعة انكشف فيها كل شيء عن نفسه ، وصرنا عراة أمام جيش من طير الأبابيل ، وأبو سعيد يترنم بسورة الأنفال ، وللآن ولا أعلم لمَ قرأها جهراً رغم أننا كنا نصلي العصر ، رحمه الله كان جبلاً لا يتزحزح ولا تثنيه الخطوب . حين انتهى سلمت عليه وهممت أن أحمل سلاحي لأنظر في أمر الرجال، فجذبني وراح يدعو الله وأنا لا أملك سوى أن أأمن خلفه، وما انتهينا حتى وجدت عاصفة تحمل الرمال والحصى لتصفع كل شيء في وجهها ، كانت تدور كأنها تكنس الأرض ثم تعلو بها كعامود نحو السماء، تلك التي تزاحمت بسحب سوداء وسيل عرم ، فلم يتمالك الملاحدة أنفسهم، وراحت مجنزراتهم وطائراتهم تولى الأدبار، وخرج رجالنا عادوا من الشقوق بوابل النيران يصبونه على كل شيء، فحصدنا من الملاحدة مئات المئات، وكبدناهم ما لم يخسروه من قبل، لكن قائدهم إفانوف اللعين عاند الريح والسيل ، وكر علينا كمقامر بطائرات من أمامنا وخلفنا ، يومها وقف أبو سعيد أمانا كمن يكلم أناساً لا نراهم " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم "، كان يصرخ في الطائرات من على قمة الجبل:تعالوا إلى ميعاد بيني وبينكم. ثم يقذف بالقذيفة لا يدري ما الله صانع بها ، غير أن كتل اللهب تزداد وتتناثر ، فصعدنا خلفه نطلق قذائفنا ونكبر ، وما إن تخرج من فوهات المدافع حتى يبعث الله من يوجهها ، وصوت الرجل يدوي " ما رميت إذ رميت لكن الله رمى " ، فتدوي السماء والأرض من بعده باللهب ، حتى أسمينا اليوم يوم الجحيم ، وأسميناها موقعة اللهب ، لكننا حين بحث عنه لم نجده ، فمسحنا دموعنا وعدنا إلى الكهوف قائلين " ويأبى الله إلا أن يتم وعده " .






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة